قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَعْدَ سَرْدِهِ رِوَايَاتِ حَدِيثِهِ فِي الِاسْتِذْكَارِ: هَذَا الِاضْطِرَابُ لَا تَقُومُ مَعَهُ حُجَّةٌ. وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَنَسٌ فَقَالَ: كَبِرَتْ سِنِّي وَنَسِيتُ. أهـ
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ فِي سَبَبِ تَرْكِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْهَرُ بِبَسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَهْزَءُونَ بِمُكَاءٍ وَتَصْدِيَةٍ، وَيَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ يَذْكُرُ إِلَهَ الْيَمَامَةِ - وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ يُسَمَّى رَحْمَنَ - فَأَنْزَلَ اللهُ (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) فَتُسْمِعَ الْمُشْرِكِينَ فَيَهْزَءُوا بِكَ (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعَهُمْ. وَقَدْ قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: إِنَّ رِجَالَهُ مُوَثَّقُونَ. وَقَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ. فَبَقِيَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَى ذِكْرِ الرَّسْمِ وَإِنْ زَالَتِ الْعِلَّةُ. وَجَمَعَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ: " إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْهَرُ بِبَسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَارَةً وَيُخْفِتُهَا أَكْثَرَ مِمَّا جَهَرَ بِهَا إِلَخْ ". وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْقُولٌ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ سَبَبَهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَاعْتَمَدَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَالنَّيْسَابُورِيُّ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ يَكُونُ تَرْكُ الْجَهْرِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ وَأَوَائِلِ الْهِجْرَةِ، وَالْجَهْرُ فِيمَا بَعْدَهُ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فِي حَدِيثَيْ أَنَسٍ وَأَبِي قَتَادَةَ الْمُخَالِفَيْنِ لِهَذَا.
وَلَا يَغُرَّنَّ أَحَدًا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ مُنْكِرَ الْبَسْمَلَةِ مِنَ الْفَاتِحَةِ أَوْ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ لَا يُكَفُّرُ وَمُثْبِتَهَا لَا يُكَفُّرُ فَيَظُنُّ أَنَّ سَبَبَ هَذَا عَدَمُ ثُبُوتِهَا بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ، كَلَّا إِنَّهَا ثَابِتَةٌ وَلَكِنَّ مُنْكِرَهَا لَا يُكَفَّرُ لِتَأْوِيلِهِ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ بِشُبَهِ الْمُعَارَضَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ وَبَيَّنَّا ضَعْفَهَا، وَسَنَزِيدُهُ بَيَانًا وَالشُّبْهَةُ تَدْرَأُ حَدَّ الرِّدَّةِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ الْآحَادِيَّةِ فِي الْإِسْرَارِ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْجَهْرِ بِهَا قَوِيٌّ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي كَوْنِهَا مِنَ الْفَاتِحَةِ أَوْ لَيْسَتْ مِنْهَا فَضَعِيفٌ جِدًّا جِدًّا وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ ذُهُولًا عَنْ رَسْمِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الْقَطْعِيِّ الْمُتَوَاتِرِ وَالْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ أَنْ تُعَارَضَ بِرِوَايَاتٍ أُحَادِيَّةٍ، أَوْ بِنَظَرِيَّاتٍ جَدَلِيَّةٍ، وَأَصْحَابُ الْجَدَلِ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْغَثِّ وَالسَّمِينِ وَبَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَالنَّقِيضَيْنِ، وَصَاحِبُ الْحَقِّ مِنْهُمْ يَشْتَبِهُ بِغَيْرِهِ، وَرُبَّمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ الْمُبْطِلُ بِخِلَابَتِهِ، إِذَا كَانَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ سَبْعَ عَشْرَةَ حُجَّةً عَلَى إِثْبَاتِ كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ مِنَ الْفَاتِحَةِ مِنْهَا الْقَوِيَّةُ وَالضَّعِيفَةُ، وَتَصَدَّى لَهُ الْأُلُوسِيُّ مُحَاوِلًا دَحْضَهَا تَعَصُّبًا لِمَذْهَبِهِ الَّذِي تَنَحَّلَهُ فِي الْكِبَرِ إِذْ كَانَ شَافِعِيًّا فَتَحَوَّلَ حَنَفِيًّا تَقَرُّبًا إِلَى الدَّوْلَةِ وَصَرَّحَ بِهَذَا التَّعَصُّبِ إِذْ قَالَ هُنَا: " عَلَى الْمَرْءِ نُصْرَةُ مَذْهَبِهِ وَالذَّبُّ عَنْهُ " إِلَخْ. وَهَذِهِ كُبْرَى زَلَّاتِهِ الْمُثْبِتَةِ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِعَدَمِ طَلَبِهِ الْحَقَّ


الصفحة التالية
Icon