أَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ الْمُتَنَاقِضَانِ قَطْعِيَّيْنِ مَعًا، وَرِوَايَةُ الْإِثْبَاتِ لَا يُمْكِنُ الطَّعْنُ فِيهَا، وَنَاهِيكَ وَقَدْ عُزِّزَتْ بِخَطِّ الْمُصْحَفِ الَّذِي هُوَ بِتَوَاتُرِهِ خَطًّا وَتَلْقِينًا أَقْوَى مِنْ جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الْقَوْلِيَّةِ وَأَعْصَى عَلَى التَّأْوِيلِ وَالِاحْتِمَالِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهَا آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا مَا عَدَا الْفَصْلَ بَيْنَ سُورَتَيِ الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَةٍ، فَمَا هُوَ إِلَّا رَأْيٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْآحَادِيَّةِ الظَّنِّيَّةِ الْمُتَعَارِضَةِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَا إِشْكَالَ فِيهِ، إِذْ لَوْ كَانَتِ الْبَسْمَلَةُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّورِ لَمْ تُوضَعْ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَلَمْ تُحْذَفْ مِنْ أَوَّلِ بَرَاءَةٍ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُمْ فِي هَذَا الْبَحْثِ فَهِيَ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْبَسْمَلَةُ مِنَ السُّورَةِ، وَرَدَّ عَلَى ذَلِكَ مَا أَوْرَدْنَاهُ مِنَ الْمَعَانِي وَالْحِكَمِ فِي بَدْءِ الْقُرْآنِ بِهَا، وَمَا صَحَّ مَرْفُوعًا مِنْ كَوْنِهَا هِيَ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ الَّذِي نَقَلَهُ الْأَلُوسِيُّ وَارْتَضَاهُ فَلَا يُسْتَغْرَبُ صُدُورُهُ وَلَا إِقْرَارُهُ مِمَّنْ يُثْبِتُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ الْمَنْطِقِيَّيْنِ وَيَفْتَخِرُ بِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ تَوْجِيهُ مَا يَعْتَقِدُ بُطْلَانَهُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ إِشْكَالٍ غَيْرِ وَارِدٍ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى لَيْسَ جَوَابًا عَنْ إِشْكَالٍ إِذْ لَا إِشْكَالَ. وَالْخِلَافُ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِي مِثْلِ السِّرَاطِ وَالصِّرَاطِ، وَمُسَيْطِرٍ وَمُصَيْطِرٍ، وَضَنِينٍ، وَظَنِينٍ، لَيْسَ خِلَافًا بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ كَمَسْأَلَةِ الْبَسْمَلَةِ بَلْ هِيَ قِرَاءَاتٌ ثَابِتَةٌ بِالتَّوَاتُرِ، فَأَمَّا ضَنِينٌ وَظَنِينٌ فَهُمَا قِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ - كَمَالِكٍ وَمَلِكٍ فِي الْفَاتِحَةِ - كُتِبَتْ قِرَاءَةُ الضَّادِ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَهُوَ الَّذِي وُزِّعَ فِي الْأَمْصَارِ وَقَرَأَ بِهَا الْجُمْهُورُ، وَقِرَاءَةُ الظَّاءِ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَقَرَأَ بِهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنًى وَلَيْسَتَا مِنْ قَبِيلِ تَسْهِيلِ الْقِرَاءَةِ لِقُرْبِ الْمَخْرَجِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَخْرَجَيِ الْحَرْفَيْنِ قَرِيبًا، وَأَمَّا السِّرَاطُ وَالصِّرَاطُ وَمُسَيْطِرٌ وَمُصَيْطِرٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا تَفْخِيمُ السِّينِ وَتَرْقِيقُهُ وَبِكُلٍّ مِنْهُمَا نَطَقَ بَعْضِ الْعَرَبِ وَثَبَتَ بِهِ النَّصُّ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا
صَحَّ مِنْ تَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ وَتَسْهِيلِهَا، وَمِنَ الْإِمَالَةِ وَعَدَمِهَا، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فَنُعِدُّ إِثْبَاتَ إِحْدَاهَا نَفْيًا لِمُقَابَلَتِهَا كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ. عَلَى أَنَّ خَطَّ الْمُصْحَفِ أَقْوَى الْحُجَجِ فَلَوْ فَرَضْنَا تَعَارُضَ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ لَكَانَ هُوَ الْمُرَجَّحَ، وَلَكِنْ لَا تَعَارُضَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
نَكْتَفِي بِهَذَا رَدًّا لِمَا فِي كَلَامِ الْأَلُوسِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِنَ الْخَطَأِ، فَإِنَّ غَيْرَهُ لَا يَعْنِينَا فِي مَوْضُوعِنَا وَلَا سِيَّمَا مَا رَجَّحَهُ عَنْ إِمَامِهِ وَخَالَفَ فِيهِ غَيْرَهُ، وَعَلَّلَهُ بِإِطْلَاقِهِمْ عَلَيْهِ لَقَبَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، وَزِيَادَتِهِ هُوَ عَلَيْهِمْ لَقَبَ الْمُجْتَهِدِ الْأَقْدَمِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ أَقْدَمُ مِنْهُ اجْتِهَادًا، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَلْقَابَ وَإِنْ صَحَّ مَعْنَاهَا لَا تَقْتَضِي عَدَمَ الْخَطَأِ وَلَا عَدَمَ النِّسْيَانِ وَلَا إِهْمَالَ بَعْضِ الْمَسَائِلِ الْمُهِمَّةِ. وَنَحْنُ يَسُرُّنَا أَنْ يَصِحَّ مَا ذَكَرَهُ، وَأَنْ يُخْطِئَ مَا أَنْكَرَهُ، فَإِنَّ مِنَ الْمَصَائِبِ أَنْ يُوجَدَ فِي الْمُسْلِمِينَ عَالِمٌ يُنْكِرُ مَا ثَبَتَ فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ الْمُتَوَاتِرِ كِتَابَةً وَرِوَايَةً. وَقَدْ نَقَلَ الرَّازِيُّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: يَقْرَأُ الْبَسْمَلَةَ وَيُسِرُّ بِهَا، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهَا آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ أَمْ لَا. (قَالَ الرَّازِيُّ) : وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟


الصفحة التالية
Icon