أَحْمَدُ: ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ: التَّفْسِيرُ، وَالْمَلَاحِمُ، وَالْمَغَازِي، وَكَانَ الْوَاجِبَ جَمْعُ الرِّوَايَاتِ الْمُفِيدَةِ فِي كُتُبٍ مُسْتَقِلَّةٍ، كَبَعْضِ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَبَيَانِ قِيمَةِ أَسَانِيدِهَا، ثُمَّ يُذْكَرُ فِي التَّفْسِيرِ مَا يَصِحُّ مِنْهَا بِدُونِ سَنَدٍ، كَمَا يُذْكَرُ الْحَدِيثُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، لَكِنْ يُعْزَى إِلَى مُخْرِجِهِ كَمَا نَفْعَلُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: " وَالِاخْتِلَافُ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى نَوْعَيْنِ: مِنْهُ مَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ فَقَطْ، وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْمَنْقُولُ إِمَّا عَنِ الْمَعْصُومِ أَوْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْقِسْمُ - الَّذِي لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ صَحِيحِهِ مِنْ ضَعِيفِهِ - عَامَّتُهُ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَذَلِكَ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي لَوْنِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَاسْمِهِ، وَفِي الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنَ الْبَقَرَةِ، وَفِي قَدْرِ سَفِينَةِ نُوحٍ وَخَشَبِهَا، وَفِي اسْمِ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخِضْرُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَهَذِهِ الْأُمُورُ طَرِيقَةُ الْعِلْمِ بِهَا النَّقْلُ، فَمَا كَانَ مِنْهَا مَنْقُولًا نَقْلًا صَحِيحًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبِلَ، وَمَا لَا - بِأَنْ نُقِلَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَكَعْبٍ وَوَهَبٍ - وُقِفَ عَنْ تَصْدِيقِهِ وَتَكْذِيبِهِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ " وَكَذَا مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَمَتَى اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَمَا نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إِلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا يُنْقَلُ عَنِ التَّابِعَيْنِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى، وَلِأَنَّ نَقْلَ الصَّحَابَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مَنْ نَقْلِ التَّابِعِينَ، وَمَعَ جَزْمِ الصَّحَابِيِّ بِمَا يَقُولُهُ كَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ نُهُوا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ؟ "
" وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ فَهَذَا مَوْجُودٌ كَثِيرٌ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - وَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ: التَّفْسِيرُ وَالْمَلَاحِمُ وَالْمَغَازِي؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ. وَأَمَّا مَا يُعْلَمُ بِالِاسْتِدْلَالِ لَا بِالنَّقْلِ فَهَذَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْخَطَأُ مِنْ جِهَتَيْنِ حَدَثَتَا بَعْدَ تَفْسِيرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ ".
ثُمَّ ذَكَرَ الْجِهَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا مَثَارُ الْخَطَأِ.
(إِحْدَاهُمَا) حَمْلُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى مَعَانٍ اعْتَقَدُوهَا لِتَأْيِيدِهَا بِهِ - أَقُولُ: كَجَمِيعِ مُقَلِّدَةِ الْفِرَقِ وَالْمَذَاهِبِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ الْمُتَعَصِّبِينَ لَهَا، فَإِنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا مَذَاهِبَهُمْ أُصُولًا وَالْقُرْآنَ فَرْعًا لَهَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا، وَهَذَا شَرُّ أَنْوَاعِ الْبِدَعِ وَتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ الْمَذْمُومِ فِي الْحَدِيثِ.
(ثَانِيَتُهُمَا) التَّفْسِيرُ بِمُجَرَّدِ دَلَالَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَالْمُنْزَلِ عَلَيْهِ وَالْمُخَاطَبِ بِهِ - وَفَصْلُ ذَلِكَ بِمَا يُرَاجَعُ فِي مَحَلِّهِ.
فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا الْإِمَامَ الْمُحَقِّقَ جَزَمَ بِالْوَقْفِ عَنْ تَصْدِيقِ جَمِيعِ مَا عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ رُوَاةِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ مَا يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِهِ فِي نَفْسِهِ. وَصَرَّحَ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِرِوَايَاتِ


الصفحة التالية
Icon