كَانَ وُجُوبُ الْقِتَالِ لِحِمَايَتِهَا، وَالْحُرِيَّةِ فِي تَبْلِيغِهَا، وَالْعَمَلِ بِمَا تَتَضَمَّنُهُ، وَمَنْعِ أَهْلِهَا وَصِيَانَتِهِمْ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالِاضْطِهَادِ لِأَجْلِهَا وَجَبَ التَّبْلِيغُ قَبْلَهُ، وَكَفُّ الْقِتَالِ عَمَّنْ يُظْهِرُ الرَّغْبَةَ فِي سَمَاعِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى، لِلْعِلْمِ بِمَضْمُونِهَا، وَالْوُقُوفِ عَلَى مَا نَهَى وَأَمَرَ، وَبَشَّرَ وَأَنْذَرَ، وَتَأْمِينِهِ فِي مَجِيئِهِ إِلَى الرَّسُولِ ـ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثُمَّ الْعَوْدَةِ إِلَى دَارِ قَوْمِهِ حَيْثُ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَكُونُ حُرًّا فِيمَا يَخْتَارُ لَهَا، وَبِهَذَا يَكُونُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ بُلِّغُوا نَبْذَ عُهُودِهِمْ أَوِ انْتِهَاءَ مُدَّتِهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: (١) مُصِرٌ عَلَى الشِّرْكِ وَعَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ. (٢) مُسْتَرْشِدٌ طَالِبٌ لِلْعِلْمِ وَسَمَاعِ الْقُرْآنِ. (٣) تَائِبٌ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ. الِاسْتِجَارَةُ: طَلَبُ الْجِوَارِ، وَهُوَ الْحِمَايَةُ وَالْأَمَانُ، فَقَدْ كَانَ مِنْ أَخْلَاقِ الْعَرَبِ حِمَايَةُ الْجَارِ وَالدِّفَاعُ عَنْهُ، حَتَّى صَارُوا يُسَمَّوْنَ النَّصِيرَ جَارًا، وَمِنْهُ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ (٨: ٤٨) وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَإِنِ اسْتَأْمَنَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِكَيْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، وَيَعْلَمَ مِنْهُ حَقِيقَةَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، أَوْ لِيَلْقَاكَ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ سَبَبًا، فَيَجِبُ أَنْ تُجِيرَهُ وَتُؤَمِّنَهُ لِكَيْ يَسْمَعَ، أَوْ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، فَإِنَّ هَذِهِ فُرْصَةٌ لِلتَّبْلِيغِ وَالِاسْتِمَاعِ، فَإِذَا اهْتَدَى بِهِ، وَآمَنَ عَنْ عِلْمٍ وَاقْتِنَاعٍ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَالْجَوَابُ أَنْ تُبَلِّغَهُ الْمَكَانَ الَّذِي يَأْمَنُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَكُونُ حُرًّا فِي عَقِيدَتِهِ، حَيْثُ لَا يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ سُلْطَانُ قَهْرٍ، وَلَا إِكْرَاهٌ عَلَى أَمْرٍ. وَتَعُودُ حَالَةُ الْحَرْبِ إِلَى مَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.
وَسَمَاعُ (كَلَامِ اللهِ) يَحْصُلُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْهُ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ تَعَالَى مَا يَرَاهُ هُوَ وَنَرَاهُ نَحْنُ كَافِيًا لِلْعِلْمِ بِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، أَوِ الْقَدْرَ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ مِنْهُ، وَهُوَ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ بُطْلَانَ الشِّرْكِ، وَحَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ، وَصِدْقَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي تَبْلِيغِهِ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ الْعَرَبِيُّ مِنْهُمْ يَفْهَمُ الْقُرْآنَ، وَيَشْعُرُ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ مُعْجِزٌ لِلْبَشَرِ، وَيَفْهَمُ حُجَجَهُ الْعَقْلِيَّةَ وَالْعِلْمِيَّةَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ، فَإِذَا أَلْقَى إِلَيْهِ السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ، فَإِنْ لَمْ تَصُدَّهُ الْعَصَبِيَّةُ، وَالْتِزَامُ الْعَدَاوَةِ لِلدَّاعِي لَا يَلْبَثُ أَنْ يُؤْمِنَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ لَهُ شَأْنُهُ وَحُرِّيَّتُهُ، وَلَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ مُسَاكَنَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْحَالُ وَالدَّارُ مَا عَلِمْنَا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْآنِ آيَاتُ التَّوْحِيدِ مِنْهُ، وَقِيلَ: سُورَةُ التَّوْبَةِ خَاصَّةً أَوْ مَا بَلَّغُوهُ مِنْهَا فِي الْمَوْسِمِ إِذْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ مُشْرِكٍ سَمِعَهُ، وَالظَّاهِرُ مَا قُلْنَاهُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ
كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (٩: ٣٦) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ مُحْكَمٌ وَهُوَ الْحَقُّ. قَالَ الْحَسَنُ: هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاعْتَمَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مِمَّا لَا يَصِحُّ أَنْ يُحْكَى إِلَّا لِرَدِّهِ وَإِبْطَالِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ عَدَمَ وُجُوبِ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ حَتَّى لِطَالِبِهَا، بَلْ مَنْعَ


الصفحة التالية
Icon