عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ - أَوْ لِعَهْدِهِمُ الَّذِي عَقَدَتْهُ أَيْمَانُهُمْ - عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ بِهَا النَّاسُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَيَكُونُونَ أَحْرَارًا فِي دِينِهِمْ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ نَكَثُوا بِمُظَاهَرَةِ حُلَفَائِهِمْ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ حُلَفَاءِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا بِالْقُرْبِ مِنْ مَكَّةَ عَلَى مَاءٍ يُسَمَّى الْهَجِيرَ، فَكَانَ نَكْثُهُمْ هَذَا مِنْ أَفْظَعِ مَا عُهِدَ مِنَ الْغَدْرِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الشِّعْرِ الَّذِي أَنْشَدَهُ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذْ كَانَ جَاءَهُ لِيُنْبِئَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ:
لَاهُمَّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا | حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا |
كُنْتَ لَنَا أَبًا وَكُنَّا وَلَدًا | ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا |
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللهُ نَصْرًا أَيَّدَا | وَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا |
فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا | فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبَدَا |
أَبْيَضَ مِثْلَ الشَّمْسِ يَسْمُو صَعِدَا | إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا |
إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا | وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا |
هُمْ بَيَّتُونَا بِالْهَجِيرِ هُجَّدًا | وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدًا |
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تَرْعَى أَحَدَا | وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا |
(ثَانِيَتُهَا) هَمُّهُمْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ وَطَنِهِ، أَوْ حَبْسِهِ حَيْثُ لَا يَرَى أَحَدًا، وَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ حَتَّى لَا يُبَلِّغَ دَعْوَةَ رَبِّهِ، أَوْ قَتْلِهِ بِأَيْدِي عُصْبَةٍ مُؤَلَّفَةٍ مِنْ شُبَّانِ بُطُونِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، لِيَتَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ فَتَتَعَذَّرُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ. ائْتَمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِذَلِكَ فِي دَارِ نَدْوَتِهِمْ فَكَانَ هُوَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ هَاهُنَا عَلَى ذِكْرِ هَمِّهِمْ بِإِخْرَاجِهِ دُونَ هَمِّهِمْ بِحَبْسِهِ، وَهَمِّهِمْ بِقَتْلِهِ الَّذِي كَانَ هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ كَمَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ (٨: ٣٠) بَلْ أَسْنَدَ إِلَيْهِمْ إِخْرَاجَهُ وَإِخْرَاجَ مِنْ هَاجَرَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ (٦٠: ١).