الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْخُرُوجِ مَعَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى تَبُوكَ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُلَفَّقَةِ الْبَاطِلَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خُبْثِ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَكُمْ إِلَيْهَا، وَتَثْبِيطِهِمْ إِيَّاكُمْ عَنِ الْقِتَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فَضَحَتْهُمْ بِهِ هَذِهِ السُّورَةُ؟ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَشَأْنُكُمْ بِغَيْرِ امْتِحَانٍ وَلَا افْتِتَانٍ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ فِيكُمْ إِلَى الْآنِ مَا يَمْتَازُ بِهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً أَيْ: وَلَمْ يَتَّخِذُوا لِأَنْفُسِهِمْ دَخِيلَةً، وَبِطَانَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ تَعَالَى بِالشِّرْكِ بِهِ، وَيُحَادُّونَ رَسُولَهُ بِالصَّدِّ عَنْ دَعْوَتِهِ، وَيُقَاتِلُونَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْصَارَ اللهِ وَرَسُولِهِ، يُطْلِعُونَ أُولَئِكَ الْوَلَائِجَ عَلَى أَسْرَارِ الْمِلَّةِ، وَيَقِفُونَهُمْ عَلَى سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ كَمَا فَعَلَ وَيَفْعَلُ الْمُنَافِقُونَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ فِيكُمْ. فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ (٣: ١١٨) عَبَّرَ عَنْ عَدَمِ ظُهُورِ هَؤُلَاءِ الْمُجَاهِدِينَ الصَّادِقِينَ، وَتَمَيُّزِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ بِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهِمْ؛ لِأَنَّ عَدَمَ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالشَّيْءِ بُرْهَانٌ عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِهِ
أَوْ وُجُودِهِ، وَلَا يُوجِدُ هَؤُلَاءِ مُمْتَازِينَ ظَاهِرِينَ إِلَّا بِمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي الِاجْتِمَاعِ مِنَ الِابْتِلَاءِ بِالشَّدَائِدِ كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٢٩: ١ - ٣).
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَدْ تَوَدَّدَ إِلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ كِتَابًا يُخْبِرُهُمْ بِهِ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ قِتَالِهِمْ بَعْدَ نَقْضِهِمْ لِعَهْدِهِ الَّذِي كَانَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، لِيُكَافِئُوهُ عَلَى ذَلِكَ بِعَدَمِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا كَانَ لَهُ لَدَيْهِمْ فِي مَكَّةَ مَنْ أَهْلٍ وَمَالٍ، فَمَا الْقَوْلُ فِي الْمُنَافِقِينَ وَمَنْ دُونَ مِثْلِ حَاطِبٍ مِنْ ضُعَفَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مَا فَشَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ مِنْ كَرَاهَةِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ كُلُّ سَبَبِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَرَاهَةِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْقِتَالِ بِنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، بَلْ كَانَ مِنْ أَسْبَابِهِ دَسَائِسُ يُلْقِيهَا الْمُشْرِكُونَ إِلَى أَصْدِقَاءٍ لَهُمْ أَوْ أُولِي قُرْبَى مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ. حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابٌ لَهُمْ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْخِطَابَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، ذَكَّرَ بِهِ الْغَافِلَ، وَأَنْذَرَ بِهِ الْمُنَافِقَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَّخِذُ وَلَيَّهُ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ مِنْهُمْ، بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّفْيُ بـ " لَمَّا " الدَّالُّ عَلَى تَوَقُّعِ الْمَنْفِيِّ لِقُرْبِ وُقُوعِهِ، وَأَكَّدَ هَذَا الْإِخْبَارَ وَالْإِنْذَارَ بِقَوْلِهِ: وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أَيْ: عَالِمٌ بِخَفَايَا مَا تَعْمَلُونَ الْآنَ وَبَعْدَ الْآنِ مُحِيطٌ بِدَقَائِقِهِ، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى الْأَنْفُسِ هُوَ الَّذِي يُمَحِّصُ مَا فِي الْقُلُوبِ، وَيُطَهِّرُ السَّرَائِرَ، وَيُزَكِّي الْأَنْفُسَ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِ