وَأَمَّا مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عَمَلِ الْخُلَفَاءِ، وَالسُّكُوتِ عَلَيْهِ مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، فَدَعْوَاهُ مَمْنُوعَةٌ. لَا الْإِجْمَاعُ بِثَابِتٍ بِمَا ذُكِرَ، وَلَا كَوْنُهُ حُجَّةً عَلَى نَسْخِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ صَحِيحًا، وَإِنِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْأُصُولِيُّونَ بِمَا لَا مَحَلَّ لِذِكْرِهِ هُنَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ التَّأْلِيفِ الْعِتْرَةُ وَالْجُبَّائِيُّ وَالْبَلْخِيُّ وَابْنُ بِشْرٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا نَتَأَلَّفُ كَافِرًا، فَأَمَّا الْفَاسِقُ فَيُعْطَى مِنْ سَهْمِ التَّأْلِيفِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: قَدْ سَقَطَ بِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَغَلَبَتِهِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِامْتِنَاعِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ إِعْطَاءِ أَبِي سُفْيَانَ وَعُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ وَعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ. وَالظَّاهِرُ جَوَازُ التَّأْلِيفِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ فِي زَمَنِ الْإِمَامِ قُوَّةٌ لَا يُطِيعُونَهُ إِلَّا لِلدُّنْيَا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِدْخَالِهِمْ تَحْتَ طَاعَتِهِ بِالْقَسْرِ وَالْغَلَبِ، فَلَهُ أَنْ يَتَأَلَّفَهُمْ وَلَا يَكُونُ لِفُشُوِّ الْإِسْلَامِ تَأْثِيرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَعْ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ اهـ.
وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ فِي جُمْلَتِهِ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ الِاجْتِهَادُ فِي تَفْصِيلِهِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَمِقْدَارُ الَّذِي يُعْطَى مِنَ الصَّدَقَاتِ وَمِنَ الْغَنَائِمِ إِنْ وُجِدَتْ وَغَيْرِهَا مِنْ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ، وَالْوَاجِبُ فِيهِ الْأَخْذُ بِرَأْيِ أَهْلِ الشُّورَى كَمَا كَانَ يَفْعَلُ الْخُلَفَاءُ فِي الْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ. وَفِي اشْتِرَاطِ الْعَجْزِ عَنْ إِدْخَالِ الْإِمَامِ إِيَّاهُمْ تَحْتَ طَاعَتِهِ بِالْغَلَبِ نَظَرٌ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَطَّرِدُ، بَلِ الْأَصْلُ فِيهِ تَرْجِيحُ الضَّرَرَيْنِ وَخَيْرِ الْمَصْلَحَتَيْنِ.
وَفِي الرِّقَابِ أَيْ: وَلِلصَّرْفِ فِي إِعَانَةِ الْمُكَاتَبِينَ مِنَ الْأَرِقَّاءِ فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ مِنَ الرِّقِّ، الَّذِي هُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْإِصْلَاحِ الْبَشَرِيِّ الْمَقْصُودِ مِنْ رَحْمَةِ الْإِسْلَامِ، أَوْ لِشِرَاءِ الْعَبِيدِ مِنْ قِنٍّ وَمُبَعَّضٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِعْتَاقِهِمْ. وَالْمُخْتَارُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ.
قَالَ فِي مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ عِنْدَ ذِكْرِ الْوَارِدِ فِي هَذَا الصِّنْفِ: وَهُوَ يَشْمَلُ الْمَكَاتِبَ وَغَيْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يُعْتَقَ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ، ذَكَرَهُ عَنْهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ، وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبْعِدُنِي مِنَ النَّارِ، فَقَالَ: " أَعْتَقِ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوَ لَيْسَا وَاحِدًا؟ قَالَ: " لَا، عِتْقُ الرَّقَبَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ بِثَمَنِهَا " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ثَلَاثَةٌ،
كُلٌّ حَقٌّ عَلَى اللهِ عَوْنُهُ. الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْمَكَاتِبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الْمُتَعَفِّفُ رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ اهـ. وَيَعْنِي بِالْخَمْسَةِ: الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَأَصْحَابَ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةَ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: حَدِيثُ الْبَرَاءِ، قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ثُمَّ قَالَ: