مُسْتَمَدَّةً مِنْهَا فَلَا تُعَدُّ أَحَقَّ مِنْهَا بِأَنْ تَكُونَ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ حَمُورَابِيَ ادَّعَى أَنَّ شَرِيعَتَهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
ثُمَّ يَرَى النَّاظِرُ سَائِرَ أَنْبِيَاءِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ أَنَّهُمْ كَانُوا تَابِعِينَ لِلتَّوْرَاةِ مُتَعَبِّدِينَ بِهَا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَدَارَسُونَ تَفْسِيرَهَا فِي مَدَارِسَ خَاصَّةٍ بِهِمْ وَبِأَبْنَائِهِمْ مَعَ عُلُومٍ أُخْرَى، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُذْكَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَيَرَى أَيْضًا أَنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ الَّذِي شَهِدَ الْمَسِيحَ بِتَفْضِيلِهِ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ وَلَمْ يَأْتِ بِشَرْعٍ وَلَا بِنَبَأٍ غَيْبِيٍّ - بَلْ إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ أَعْظَمُهُمْ قَدْرًا وَأَعْلَاهُمْ ذِكْرًا، وَأَجَلُّهُمْ أَثَرًا، لَمْ يَأْتِ بِشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ بَلْ كَانَ تَابِعًا لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مَعَ نَسْخِ قَلِيلٍ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَإِصْلَاحٍ رُوحِيٍّ أَدَبِيٍّ لِجُمُودِ الْيَهُودِ الْمَادِّيِّ عَلَى ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا، فَأَمْكَنَ لِجَاحِدِي الْوَحْيِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّهُ لَا يَكْثُرُ عَلَى رَجُلٍ مِثْلِهِ زَكِيِّ
الْفِطْرَةِ ذَكِيِّ الْعَقْلِ نَاشِئٍ فِي حِجْرِ الشَّرِيعَةِ الْيَهُودِيَّةِ، وَالْمَدَنِيَّةِ الرُّومَانِيَّةِ. وَالْحِكْمَةِ الْيُونَانِيَّةِ، غَلَبَ عَلَيْهِ الزُّهْدُ وَالرُّوحَانِيَّةُ، أَنْ يَأْتِيَ بِتِلْكَ الْوَصَايَا الْأَدَبِيَّةِ، وَنَحْنُ الْمُسْلِمِينَ لَا نَقُولُ هَذَا وَإِنَّمَا يَقُولُهُ الْمَادِّيُّونَ وَالْمُلْحِدُونَ وَالْعَقْلِيُّونَ، وَأُلُوفٌ مِنْهُمْ يُنْسَبُونَ إِلَى الْمَذَاهِبِ النَّصْرَانِيَّةِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ عَقَائِدُ الدِّينِ وَعِبَادَاتُهُ وَآدَابُهُ وَأَحْكَامُهُ فَلَا يَرْتَابُ الْعَقْلُ الْمُسْتَقِلُّ الْمُفَكِّرُ غَيْرُ الْمُقَلِّدِ لِدِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ فِي أَنَّ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ: مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَوَصْفِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَمِنْ بَيَانِ هِدَايَةِ رُسُلِهِ، وَمِنْ عِبَادَاتِهِ وَآدَابِهِ الْمُزَكِّيَةِ لِلنَّفْسِ الْمُرَقِّيَةِ لِلْعَقْلِ، وَمِنْ تَشْرِيعِهِ الْعَادِلِ وَحُكْمِهِ الشُّورِيِّ الْمُرَقِّي لِلِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ - كُلُّ ذَلِكَ أَرْقَى مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْأَنَاجِيلِ وَسَائِرِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، بَلْ هُوَ الْإِصْلَاحُ الَّذِي بَلَغَ بِهِ دِينُ اللهِ أَعْلَى الْكَمَالِ، وَيَشْهَدُ بِهَذَا عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِنَا وَوِجْهَةِ نَظَرِهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ التَّفْسِيرِ (آخِرُهَا ص ٣١٣ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ).
وَمَنْ نَظَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَيُوسُفَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَسِيرَةِ مُوسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سَائِرِ أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْقِصَصَ فِي الْقُرْآنِ يَرَى الْفَرْقَ الْعَظِيمَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِسِيرَةِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْعِظَامِ ; فَفِي أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ يَرَى وَصْفَ اللهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالنَّدَمِ عَلَى خَلْقِ الْبَشَرِ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَوَصْفَ الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي مِمَّا هُوَ قُدْوَةٌ سُوأَى، مِنْ حَيْثُ يَجِدُ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمِنْ وَصْفِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ بِالْكَمَالِ وَأَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، مَا هُوَ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ وَأُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تَزِيدُ قَارِئَهَا إِيمَانًا وَهُدًى، فَأَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ تُشْبِهُ بُسْتَانًا فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الشَّجَرِ وَالْعُشْبِ وَالشَّوْكِ، وَالثِّمَارِ وَالْأَزْهَارِ


الصفحة التالية
Icon