شُبْهَةٌ عَلَى الْوَحْيِ
حَضْرَةَ الْأُسْتَاذِ الرَّشِيدِ
عَرَضَتْ لِي شُبَهَاتٌ فِي وُقُوعِ الْوَحْيِ (وَهُوَ أَسَاسُ الدِّينِ) فَعَمَدْتُ إِلَى رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ لِلشَّيْخِ مُحَمَّدْ عَبْدُهْ - حَيْثُ وَقَعَ اخْتِيَارِي عَلَيْهَا - وَقَرَأْتُ فِي بَابَيْ (حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى الْوَحْيِ) وَ (إِمْكَانِ الْوَحْيِ) فَوَجَدْتُ الْكَلَامَ وَجِيهًا مَعْقُولًا، غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الشَّيْءِ لَا تَسْتَلْزِمُ وُقُوعَهُ، وَكَذَا إِمْكَانُهُ وَعَدَمُ اسْتِحَالَتِهِ عَقْلًا لَا يَقْتَضِي حُصُولَهُ. ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدُ مِنْ أَنَّ حَالَةَ النَّبِيِّ وَسُلُوكَهُ بَيْنَ قَوْمِهِ بِجَلَائِلِ الْأَعْمَالِ وَبِوُقُوعِ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدَيْهِ هُوَ دَلِيلُ نُبُوَّتِهِ وَتَأْيِيدُ بَعْثَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ (كَوْنُ) النَّبِيِّ حَمِيدَ السِّيرَةِ فِي عَشِيرَتِهِ صَادِقًا فِي دَعْوَتِهِ - أَعْنِي مُعْتَقِدًا فِي نَفْسِهِ - سَبَبًا فِي نُهُوضِ أُمَّتِهِ، وَلَا يَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ مَدْعَاةً إِلَى الِاعْتِقَادِ بِهِ وَالتَّسْلِيمِ لَهُ.
وَلَقَدْ حَدَثَ بِفَرَنْسَا فِي الْقَرْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ الْمِيلَادِيِّ إِذْ كَانَتْ مَقْهُورَةً لِلْإِنْكِلِيزِ
أَنَّ بِنْتًا تُدْعَى (جَانْ دَارْكْ) مَنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ سِيرَةً وَأَسْلَمِهِنَّ نِيَّةً اعْتَقَدَتْ وَهِيَ مِنْ بَيْتِ أَهْلِهَا بَعِيدَةً عَنِ التَّكَالِيفِ السِّيَاسِيَّةِ أَنَّهَا مُرْسَلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ لِإِنْقَاذِ وَطَنِهَا وَدَفْعِ الْعَدُوِّ عَنْهُ، وَصَارَتْ تَسْمَعُ صَوْتَ الْوَحْيِ فَأَخْلَصَتْ فِي الدَّعْوَةِ لِلْقِتَالِ، وَتَوَصَّلَتْ بِصِدْقِ إِرَادَتِهَا إِلَى رِئَاسَةِ جَيْشٍ صَغِيرٍ وَغَلَبَتْ بِهِ الْعَدُوَّ فِعْلًا، ثُمَّ مَاتَتْ غِبَّ نُصْرَتِهَا مَوْتَةَ الْأَبْطَالِ مِنَ الرِّجَالِ، إِذْ خَذَلَهَا قَوْمُهَا، وَوَقَعَتْ فِي يَدِ عَدُوِّهَا فَأَلْقَوْهَا فِي النَّارِ حَيَّةً، فَذَهَبَتْ تَارِكَةً فِي صَحَائِفِ التَّارِيخِ اسْمًا يَعْبَقُ نَشْرُهُ وَتَضُوعُ رَيَّاهُ، وَهِيَ الْآنَ مَوْضِعُ إِجْلَالِ الْقَوْمِ وَإِعْظَامِهِمْ، فَلَقَدْ تَيَسَّرَتْ لَهُمُ النَّهْضَةُ بَعْدَهَا وَجَرَوْا فِي الْعِلْمِ وَالرُّقِيِّ بَعِيدًا.
فَهَلْ نَجْزِمُ لِذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْبِنْتَ نَبِيَّةٌ مُرْسَلَةٌ؟ ؟ رُبَّمَا تَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ عَمَلَهَا لَا يُذْكَرُ مُقَارَنًا بِمَا أَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَمَا وَصَلَ لِلنَّاسِ مِنَ الْخَيْرِ بِسَبَبِهِمْ، فَأَقُولُ: هَلْ هُنَاكَ مِنْ مِيزَانٍ نَزِنُ بِهِ الْأَعْمَالَ النَّافِعَةَ لِنَعْلَمَ إِنْ كَانَتْ وَصَلَتْ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي يَجِبُ مَعَهَا أَنْ نُصَدِّقَ دَعْوَةَ صَاحِبِهَا؟ وَهَلْ لَوْ سَاعَدَتِ الصُّدَفُ (كَذَا) رَجُلًا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ النَّاسِ فِعْلًا وَأَبْقَاهُمْ أَثَرًا وَاعْتَقَدَ بِرِسَالَةِ نَفْسِهِ لِوَهْمٍ قَامَ (عِنْدَهُ) يُفْضِي بِنَا ذَلِكَ إِلَى التَّيَقُّنِ مِنْ رِسَالَتِهِ؟
أَظُنُّ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مُضَافًا لِغَيْرِهِ يَدْعُو إِلَى التَّرْجِيحِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ الْيَقِينَ أَبَدًا. عَلَى أَنَّنِي أَنْتَظِرُ أَنْ تَجِدُوا فِي قَوْلِي هَذَا خَطَأً تُقْنِعُونِي بِهِ أَوْ تَزِيدُونِي إِيضَاحًا يَنْكَشِفُ بِهِ الْحِجَابُ وَتَنَالُونَ بِهِ الثَّوَابَ. هَذَا وَإِنِّي أَعْلَمُ مِنْ فِئَةٍ مُسْلِمَةٍ مَا أَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِي وَلَكِنَّهُمْ يَتَحَفَّظُونَ فِي الْكِتْمَانِ، وَيَسْأَلُونَ الْكُتُبَ خَشْيَةَ سُؤَالِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنِّي لَا أَجِدُ فِي السُّؤَالِ عَارًا، وَكُلُّ عَقْلٍ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَيَزِلُّ وَيَسْتَقِيمُ. (أَحَدُ قُرَّائِكُمْ).


الصفحة التالية
Icon