أَلَا يَكْفِي أَنْ يَفْتَحَ الْإِنْسَانُ عَيْنَيْهِ لِيَرَى، وَأَنْ يُرْهِفَ أُذُنَهُ لِيَسْمَعَ؟ لِيَرَى حَقًّا، وَلِيَسْمَعَ الْكَلِمَ الْخَالِدَ! لَكِنَّ لِلنَّاسِ عُيُونًا لَا تَرَى وَآذَانًا لَا تَسْمَعُ... أَمَّا هُوَ فَحَسْبٌ أَنَّهُ يَسْمَعُ وَيَرَى وَهَلْ تَحْتَاجُ لِكَيْ تَسْمَعَ مَا وَرَاءَ السَّمَاءِ مِنْ أَصْوَاتٍ إِلَّا إِلَى قَلْبٍ خَالِصٍ وَنَفْسٍ مُخْلِصَةٍ وَفُؤَادٍ مُلِئَ إِيمَانًا؟
((وَمُحَمَّدٌ فِي رَيْبٍ مِنْ حِكْمَةِ النَّاسِ فَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَعْرِفَ إِلَّا الْحَقَّ الْخَالِصَ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ بَاطِلٌ، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ الْعَيْشَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالْحَقُّ لَيْسَ فِيمَا يَرَى حَوْلَهُ، فَحَيَاةُ الْقُرَشِيِّينَ لَيْسَتْ حَقًّا، وَرِبَا الْمُرَابِينَ وَنَهْبُ الْبَدْوِ وَلَهْوُ
الْخُلَعَاءِ وَكُلُّ مَا إِلَى ذَلِكَ لَا شَيْءَ مِنَ الْحَقِّ فِيهِ، وَالْأَصْنَامُ الْمُحِيطَةُ بِالْكَعْبَةِ لَيْسَتْ حَقًّا وَهُبَلُ الْإِلَهُ الطَّوِيلُ الذَّقْنِ الْكَثِيرُ الْعُطُورِ وَالْمَلَابِسِ لَيْسَ إِلَهًا حَقًّا.
((إِذًا فَأَيْنَ الْحَقُّ وَمَا هُوَ)) ؟
((وَظَلَّ مُحَمَّدٌ يَتَرَدَّدُ عَلَى حِرَاءَ فِي رَمَضَانَ كُلَّ عَامٍ سَنَوَاتٍ مُتَتَالِيَةً وَهُنَاكَ كَانَ يَزْدَادُ بِهِ التَّأَمُّلُ ابْتِغَاءَ الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَكَانَ يَنْسَى نَفْسَهُ، وَيَنْسَى طَعَامَهُ، وَيَنْسَى كُلَّ مَا فِي الْحَيَاةِ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي يَرَى فِي الْحَيَاةِ لَيْسَ حَقًّا وَهُنَاكَ كَانَ يُقَلِّبُ فِي صُحُفِ ذِهْنِهِ كُلَّ مَا وَعَى، فَيَزْدَادُ عَمَّا يُزَاوِلُ النَّاسُ مِنْ أَلْوَانِ الظَّنِّ رَغْبَةً وَازْوِرَارًا، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَطْمَعُ فِي أَنْ يَجِدَ فِي قِصَصِ الْأَحْبَارِ وَفِي كُتُبِ الرُّهْبَانِ الْحَقَّ الَّذِي يَنْشُدُ، بَلْ فِي هَذَا الْكَوْنِ الْمُحِيطِ بِهِ: فِي السَّمَاءِ وَنُجُومِهَا وَقَمَرِهَا وَشَمْسِهَا، وَفِي الصَّحْرَاءِ سَاعَاتِ لَهِيبِهَا الْمُحْرِقِ تَحْتَ ضَوْءِ الشَّمْسِ الْبَاهِرَةِ اللَّأْلَاءِ، وَسَاعَاتِ صَفْوِهَا الْبَدِيعِ إِذْ تَكْسُوهَا أَشِعَّةُ الْقَمَرِ أَوْ أَضْوَاءُ النُّجُومِ بِلِبَاسِهَا الرَّطْبِ النَّدِيِّ، وَفِي الْبَحْرِ وَمَوْجِهِ وَفِي كُلِّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَّصِلُ بِالْوُجُودِ وَتَشْمَلُهُ وَحْدَةُ الْوُجُودِ - فِي هَذَا الْكَوْنِ كَانَ يَلْتَمِسُ الْحَقِيقَةَ الْعُلْيَا، وَابْتِغَاءُ إِدْرَاكِهَا كَانَ يَسْمُو بِنَفْسِهِ سَاعَاتِ خَلْوَتِهِ لِيَتَّصِلَ بِهَذَا الْكَوْنِ وَلِيَخْتَرِقَ شِغَافَ الْحُجُبِ إِلَى مَكْنُونِ سِرِّهِ.
قَالَ دِرِمِنْغَامْ: فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةُ ٦١٠ م أَوْ نَحْوُهَا كَانَتِ الْحَالُ النَّفْسِيَّةُ الَّتِي يُعَانِيهَا (مُحَمَّدٌ) عَلَى أَشُدِّهَا فَقَدْ أَبْهَظَتْ عَاتِقَهُ الْعَقِيدَةُ بِأَنَّ أَمْرًا جَوْهَرِيًّا يَنْقُصُهُ وَيَنْقُصُ قَوْمَهُ، وَأَنَّ النَّاسَ نَسُوا هَذَا الْأَمْرَ الْجَوْهَرِيَّ وَتَشَبَّثَ كُلٌّ بِصَنَمِ قَوْمِهِ وَقَبِيلَتِهِ، وَخَشِيَ النَّاسُ الْجِنَّ وَالْأَشْبَاحَ وَالْبَوَارِحَ وَأَهْمَلُوا الْحَقِيقَةَ الْعُلْيَا، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوهَا وَلَكِنَّهُمْ نَسُوهَا نِسْيَانًا هُوَ مَوْتُ الرُّوحِ وَقَدْ خَلَصَتْ نَفْسُ ((مُحَمَّدٍ)) مَنْ كُلِّ هَذِهِ الْآرَاءِ التَّافِهَةِ، وَمِنْ كُلِّ الْقُوَى الَّتِي تَخْضَعُ لِقُوَّةِ غَيْرِهَا وَمِنْ كُلِّ كَائِنٍ لَيْسَ مَظْهَرًا لِلْكَائِنِ الْوَاحِدِ.


الصفحة التالية
Icon