عِيسَى الْمَسِيحُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ - وَإِنَّ هَذَا عَلَقَ بِنَفْسِهِ فَتَعَلَّقَ رَجَاؤُهُ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ ذَلِكَ النَّبِيَّ الَّذِي آنَ أَوَانُهُ - وَهَذَا اسْتِنْبَاطٌ لَهُمْ مِمَّا قَبْلَهُ وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ - وَنَتِيجَةُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَوَسَّلَ إِلَى ذَلِكَ بِالِانْقِطَاعِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي خَلْوَتِهِ بِغَارِ حِرَاءَ فَقَوِيَ هُنَالِكَ إِيمَانُهُ، وَسَمَا وِجْدَانُهُ، فَاتَّسَعَ مُحِيطُ تَفَكُّرِهِ، وَتَضَاعَفَ نُورُ بَصِيرَتِهِ، فَاهْتَدَى عَقْلُهُ الْكَبِيرُ إِلَى الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ مُبْدِعِ الْوُجُودِ، وَسِرِّ النِّظَامِ السَّارِي فِي كُلِّ مَوْجُودٍ، بِمَا صَارَ بِهِ أَهْلًا لِهِدَايَةِ النَّاسِ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمَا زَالَ يُفَكِّرُ وَيَتَأَمَّلُ، وَيَنْفَعِلُ وَيَتَمَلْمَلُ، وَيَتَقَلَّبُ بَيْنَ الْآلَامِ وَالْآمَالِ، حَتَّى أَيْقَنَ أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْمُنْتَظَرُ، الَّذِي يَبْعَثُهُ اللهُ لِهِدَايَةِ الْبَشَرِ، فَتَجَلَّى لَهُ هَذَا الِاعْتِقَادُ فِي الرُّؤَى الْمَنَامِيَّةِ، ثُمَّ قَوِيَ حَتَّى صَارَ يَتَمَثَّلُ لَهُ الْمَلَكُ يُلَقِّنُهُ فِي الْيَقَظَةِ.
وَأَمَّا الْمَعْلُومَاتُ الَّتِي جَاءَتْهُ فِي هَذَا الْوَحْيِ فَهِيَ مُسْتَمَدَّةُ الْأَصْلِ مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَمِمَّا هَدَاهُ إِلَيْهِ عَقْلُهُ وَتَفَكُّرُهُ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَصِحُّ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تَتَجَلَّى لَهُ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّهَا خِطَابُ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ بِوَاسِطَةِ النَّامُوسِ الْأَكْبَرِ مَلَكِ الْوَحْيِ جِبْرِيلَ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَقَالَ أَحَدُ مَلَاحِدَةِ الْمِصْرِيِّينَ: إِنْ سُولُونَ الْحَكِيمَ الْيُونَانِيَّ وَضَعَ قَانُونًا وَشَرِيعَةً لِقَوْمِهِ فَلَيْسَ بِدْعًا فِي الْعَقْلِ أَنْ يَضَعَ مُحَمَّدٌ شَرِيعَةً أَيْضًا، وَسَأُبَيِّنُ فَسَادَ هَذَا الرَّأْيِ.
(تَفْنِيدُ تَصْوِيرِهِمْ لِلْوَحْيِ النَّفْسِيِّ وَإِبْطَالِهِ مِنْ وُجُوهٍ)
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّ أَكْثَرَ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي أَخَذُوا مِنْهَا هَذِهِ النَّتِيجَةَ هِيَ آرَاءٌ مُتَخَيَّلَةٌ، أَوْ دَعَاوَى بَاطِلَةٌ، لَا قَضَايَا تَارِيخِيَّةٌ ثَابِتَةٌ، كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ ذِكْرِهَا، وَإِذَا بَطَلَتِ الْمُقَدِّمَاتُ بَطَلَ التَّسْلِيمُ بِالنَّتِيجَةِ.
مِثَالُ ذَلِكَ زَعْمُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ خَبَرَ غَلَبِ الْفُرْسِ وَظُهُورِهِمْ عَلَى الرُّومِ ; لِيُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّ مَا جَاءَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ مِنَ الْإِنْبَاءِ بِالْمَسْأَلَةِ وَبِأَنَّ الرُّومَ سَيَغْلِبُونَ الْفُرْسَ بَعْدَ ذَلِكَ - هُوَ مُسْتَمَدٌّ مِمَّا سَمِعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَصَارَى الشَّامِ. وَهَذَا مَرْدُودٌ بِدَلَائِلِ التَّارِيخِ وَالْعَقْلِ. فَأَمَّا التَّارِيخُ فَإِنَّهُ يُحَدِّثُنَا بِأَنَّ ظُهُورَ الْفُرْسِ عَلَى الرُّومِ كَانَ فِي سَنَةِ ٦١٠م وَذَلِكَ بَعْدَ رِحْلَةِ مُحَمَّدٍ الْأَخِيرَةِ إِلَى الشَّامِ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَقَبْلَ بَدْءِ الْوَحْيِ بِسَنَةٍ. ثُمَّ إِنَّ التَّارِيخَ أَنْبَأَنَا أَنَّ دَوْلَةَ الرُّومِ كَانَتْ مُخْتَلَّةً مُعْتَلَّةً فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرْجُو أَنْ تَعُودَ لَهَا الْكَرَّةُ وَالْغَلَبُ عَلَى الْفَرَسِ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْفُسَهُمْ هَزِئُوا بِالْخَبَرِ وَرَاهَنَ أَبُو بَكْرٍ أَحَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَجَازَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَبِحَ الرِّهَانَ


الصفحة التالية
Icon