وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَ قِصَّةِ مُوسَى فِي مَدْيَنَ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٢٨: ٤٤، ٤٥) وَقَوْلُهُ بَعْدَ قِصَّةِ نُوحٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (١١: ٤٩) وَنَحْوُهَا فِي قِصَّةِ يُونُسَ مِنْ سُورَتِهِ.
(الْوَجْهُ الْخَامِسُ) أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ وَلَا الضَّعِيفَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كَانَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّبِيَّ الْمُنْتَظَرَ الَّذِي كَانَ يَتَحَدَّثُ عَنْهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَبْلَ بَعْثَتِهِ، وَلَوْ رُوِيَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَدَوَّنَهُ الْمُحَدِّثُونَ لِأَنَّهُمْ مَا تَرَكُوا شَيْئًا بَلَغَهُمْ عَنْهُ إِلَّا دَوَّنُوهُ كَمَا رَوَوْا مِثْلَهُ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ.
(الْوَجْهُ السَّادِسُ) أَنَّ حَدِيثَ بَدْءِ الْوَحْيِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا رَأَى الْمَلَكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَمْ تَجِدْ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ الْعَاقِلَةُ الْمُفَكِّرَةُ وَسِيلَةً يَطْمَئِنُّ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ وَتَطْمَئِنُّ هِيَ عَلَيْهِ إِلَّا اسْتِفْتَاءَ أَعْلَمِ الْعَرَبِ بِهَذَا الشَّأْنِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الَّذِي كَانَ تَنَصَّرَ وَقَرَأَ كُتُبَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
(الْوَجْهُ السَّابِعُ) لَوْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ أَمْرًا كَانَ يَرْجُوهُ مُحَمَّدٌ وَيَتَوَقَّعُهُ، وَكَانَ قَدْ تَمَّ اسْتِعْدَادُهُ لَهُ بِاخْتِلَائِهِ وَتَعَبُّدِهِ فِي الْغَارِ، وَمَا صَوَّرُوا بِهِ حَالَهُ فِيهِ مِنَ الْفِكْرِ الْمُضْطَرِبِ، وَالْوِجْدَانِ الْمُلْتَهِبِ، وَالْقَلْبِ الْمُتَقَلِّبِ، حَتَّى إِذَا كَمُلَ اسْتِعْدَادُهُ تَجَلَّى لَهُ رَجَاؤُهُ وَاعْتِقَادُهُ، بِمَا تَمَّ بِهِ مُرَادُهُ، لَظَهَرَ عَقِبَ ذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَتْ تَنْطَوِي عَلَيْهِ نَفْسُهُ الْوَثَّابَةُ، وَفِكْرَتُهُ الْوَقَّادَةُ، فِي سُورَةٍ أَوْ سُوَرٍ مِنْ أَبْلَغِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، فِي بَيَانِ أُصُولِ الْإِيمَانِ، وَتَوْحِيدِ الدَّيَّانِ، وَاجْتِثَاثِ شَجَرَةِ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِنْذَارِ رُءُوسِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، مَا سَيَلْقَوْنَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، كَسُوَرِ الْمُفَصَّلِ وَلَا سِيَّمَا (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (٥٠: ١) وَالذَّارِيَاتِ وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ. ثُمَّ الْحَاقَّةِ وَالنَّبَأِ - أَوْ فِي سُورَةٍ مِنَ السُّوَرِ الْوُسْطَى الَّتِي تُقَرِّعُهُمْ بِالْحُجَجِ، وَتَأْخُذُهُمْ بِالْعِبَرِ، وَتَضْرِبُ لَهُمُ الْمَثَلَ بِسُنَنِ اللهِ فِي الرُّسُلِ، كَسُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحَجِّ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَلَكِنَّهُ ظَلَّ ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يَتْلُ فِيهَا عَلَى النَّاسِ سُورَةً، وَلَمْ يَدْعُهُمْ إِلَى شَيْءٍ، وَلَا تَحَدَّثَ إِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَا إِلَى أَصْدِقَائِهِ بِمَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ الدِّينِيِّ الَّذِي تَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَلَا مِنْ ذَمِّ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ الَّذِي ضَاقَ بِهِ ذَرْعُهُ، إِذْ لَوْ تَحَدَّثَ بِذَلِكَ لَنَقَلُوهُ عَنْهُ، وَنَاهِيكَ بِأَلْصَقِ النَّاسِ بِهِ. خَدِيجَةُ وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي بَيْتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الَّذِي عَاشَرَهُ طُولَ عُمُرِهِ - فَهَذَا السُّكُوتُ وَحْدَهُ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ


الصفحة التالية
Icon