الْقَوْلُ الْحَقُّ فِي اسْتِعْدَادِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنُّبُوَّةِ:
التَّحْقِيقُ فِي صِفَةِ حَالِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ، وَإِعْدَادِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ لِنَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ، هُوَ أَنَّهُ خَلَقَهُ كَامِلَ الْفِطْرَةِ، لِيَبْعَثَهُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ كَامِلَ الْعَقْلِ الِاسْتِعْدَادِيِّ الْهَيُولَانِيِّ، لِيَبْعَثَهُ بِدِينِ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ الْعِلْمِيِّ، وَأَنَّهُ كَمَّلَهُ بِمَعَالِي الْأَخْلَاقِ لِيَبْعَثَهُ مُتَمِّمًا لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَأَنَّهُ بَغَّضَ إِلَيْهِ الْوَثَنِيَّةَ وَخُرَافَاتِ أَهْلِهَا وَرَذَائِلَهُمْ مِنْ صِغَرِ سِنِّهِ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِ الْعُزْلَةَ حَتَّى لَا تَأْنَسَ نَفْسُهُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، أَوْ مُنْكِرَاتِ الْوَحْشِيَّةِ، كَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْبَغْيِ عَلَى النَّاسِ، أَوِ الْمَطَامِعِ الدَّنِيئَةِ كَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ - لِيَبْعَثَهُ مُصْلِحًا لِمَا فَسَدَ مِنْ أَنْفُسِ النَّاسِ، وَمُزَكِّيًا لَهُمْ بِالتَّأَسِّي بِهِ، وَجَعَلَهُ الْمَثَلَ الْبَشَرِيَّ الْأَعْلَى، لِتَنْفِيذِ مَا يُوحِيهِ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرْعِ الْأَعْلَى، فَكَانَ مِنْ عِفَّتِهِ أَنْ سَلَخَ مِنْ سِنِي شَبَابِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً مَعَ زَوْجِهِ خَدِيجَةَ كَانَتْ فِي ١٥ مِنْهَا عَجُوزًا يَائِسَةً مِنَ النَّسْلِ فَتُوُفِّيَتْ فِي الْخَامِسَةِ وَالسِّتِّينَ وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَظَلَّ يَذْكُرُهَا وَيُفَضِّلُهَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ تَزَوَّجَ بِهِنَّ مِنْ بَعْدِهَا، حَتَّى عَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ عَلَى جَمَالِهَا وَحَدَاثَتِهَا وَذَكَائِهَا وَكَمَالِ اسْتِعْدَادِهَا لِلتَّبْلِيغِ عَنْهُ - وَظَلَّ طُولَ عُمُرِهِ يَكْرَهُ سَفْكَ الدِّمَاءِ وَلَوْ بِالْحَقِّ فَكَانَ عَلَى شَجَاعَتِهِ
الْكَامِلَةِ يَقُودُ أَصْحَابَهُ لِقِتَالِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَائِهِ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ لِأَجْلِ صَدِّهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ بِيَدِهِ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا مِنْهُمْ (هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ) كَانَ مُوَطِّنًا نَفْسَهُ عَلَى قَتْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَجَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُدَجَّجٌ بِالْحَدِيدِ مِنْ مِغْفَرٍ وَدِرْعٍ فَلَمْ يَجِدْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُدًّا مِنْ قَتْلِهِ فَطَعَنَهُ فِي تَرْقُوَتِهِ مِنْ خَلَلِ الدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ، وَظَلَّ طُولَ عُمْرِهِ وَبَعْدَ مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ يُؤْثِرُ الْقَشَفَ وَشَظَفَ الْعَيْشِ عَلَى نِعْمَتِهِ، مَعَ إِبَاحَةِ شَرْعِهِ لِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَنَهْيِهِ لِمَنْ كَانَ يَتْرُكُهَا تَدَيُّنًا، وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، مَعَ إِبَاحَةِ دِينِهِ لِلزِّينَةِ وَأَمْرِهِ بِهَا عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكَانَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ لَا يَعِيبُ طَعَامًا قَطُّ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْرَبُ إِلَّا الْمَاءَ الْعَذْبَ النَّقِيَّ.
وَأَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى اسْتِعْدَادَهُ الذَّاتِيَّ ((لَا الْكَسْبِيَّ)) لِلْبَعْثَةِ بِإِكْمَالِ دِينِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَالتَّشْرِيعِ الْكَافِي الْكَافِلِ لِإِصْلَاحِ جَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، بِأَنْ أَنْشَأَهُ كَأَكْثَرِ قَوْمِهِ أُمِّيًّا وَصَرَفَهُ فِي أُمِّيَّتِهِ عَنِ اكْتِسَابِ أَيِّ شَيْءٍ مِنْ عُلُومِ الْبَشَرِ مِنْ قَوْمِهِ الْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَدْنَى عِنَايَةٍ بِمَا يَتَفَاخَرُ بِهِ قَوْمُهُ مِنْ فَصَاحَةِ


الصفحة التالية
Icon