الَّذِي هَبَطَ بِهَذَا الْإِنْسَانِ مِنْ أُفُقِهِ الْأَعْلَى فِي عَالَمِ الْأَرْضِ إِلَى عِبَادَةِ مِثْلِهِ وَمَا هُوَ دُونَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَا أَفْسَدَ عَقْلَهُ وَذَهَبَ بِاسْتِقْلَالِ فِكْرِهِ مِنَ الْبِدَعِ الْكَنَسِيَّةِ، وَالتَّقَالِيدِ الْمَذْهَبِيَّةِ، الَّتِي أَحَالَتْ تَوْحِيدَ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ شِرْكًا وَحَقَّهُمْ بَاطِلًا، وَهِدَايَتَهُمْ غِوَايَةً - وَمَا أَفْسَدَ بَأْسَهُ، وَأَذَلَّ نَفْسَهُ، وَسَلَبَهُ إِرَادَتَهُ، مِنِ اسْتِبْدَادِ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ، وَالرُّؤَسَاءِ الْقَاهِرِينَ، ثَوْرَةٌ تُحَرِّرُ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ وَالْإِرَادَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ مِنْ رِقِّ الْمُنْتَحِلِينَ لِأَنْفُسِهِمْ صِفَةَ الرُّبُوبِيَّةِ أَوِ النِّيَابَةِ عَنْهَا فِي التَّحَكُّمِ فِي النَّاسِ وَاسْتِذْلَالِهِمْ، فَيَكُونُ كُلُّ امْرِئٍ اهْتَدَى بِهِ حُرًّا كَرِيمًا فِي نَفْسِهِ، عَبْدًا خَالِصًا لِرَبِّهِ وَإِلَهِهِ، يُوَجِّهُ قُوَاهُ الْعَقْلِيَّةَ وَالْبَدَنِيَّةَ إِلَى تَكْمِيلِ نَفْسِهِ وَجِنْسِهِ.
مَثَلُ هَذِهِ الثَّوْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَحْدُثَ إِلَّا عَلَى قَاعِدَةِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ((إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (١٣: ١١) وَكَيْفَ يَكُونُ تَغْيِيرُ الْأَقْوَامِ
لِمَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ، الَّتِي طَبَعَتْهَا عَلَيْهَا الْعِبَادَاتُ الْمَوْرُوثَةُ وَالْعَادَاتُ الرَّاسِخَةُ؟
هَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ قِيَامُ مُصْلِحٍ فِيهِمْ يَضَعُ لَهُمْ كِتَابًا تَعْلِيمِيًّا جَافًّا كَكُتُبِ الْفُنُونِ يَقُولُ فِيهِ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ضَالُّونَ فَاسِدُونَ، وَمُضِلُّونَ مُفْسِدُونَ، فَاعْمَلُوا بِهَذَا الْكِتَابِ تَهْتَدُوا وَتَصْلُحُوا أَوْ قَانُونًا مَدَنِيًّا يَقُولُ فِي مُقَدِّمَتِهِ: نَفِّذُوا هَذَا الْقَانُونَ تُحْفَظْ حُقُوقُكُمْ، وَتَعْتَزَّ أُمَّتُكُمْ وَتَقْوَ دَوْلَتُكُمْ؟ أَنَّى وَقَدْ عُهِدَ مِنَ النَّاسِ الْفَاسِدِينَ الْمُفْسِدِينَ سُوءُ التَّصَرُّفِ بِكُتُبِ أَنْبِيَائِهِمُ الْمُرْسَلِينَ، وَإِهْمَالِ قَوَانِينِ حُكَمَائِهِمُ الْمُصْلِحِينَ، (كَمَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ الْمُتَأَخِّرُونَ) وَإِنَّمَا تُوضَعُ الْقَوَانِينُ لِلْحُكُومَاتِ الْمُنَظَّمَةِ ذَاتِ السُّلْطَةِ وَالْقُوَّةِ الَّتِي تَكْفُلُ تَنْفِيذَهَا، وَأَنَّى لِمُحَمَّدٍ فِعْلُ هَذَا فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَقَدْ بُعِثَ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، فَرِيدًا وَحِيدًا لَا عُصْبَةَ لَهُ مِنْ قَوِمِهِ وَلَا سُلْطَانَ؟ عَلَى أَنَّهُ جَاءَ بِأَعْدَلِ الْأُصُولِ الَّتِي تَبْنِي عَلَيْهَا أُمَّتُهُ قَوَانِينَهَا عِنْدَ تَكْوِينِ دَوْلَتِهَا فِي الْأَحْوَالِ الْمُلَائِمَةِ لَهَا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي.
كَلَّا إِنَّ هَذِهِ الثَّوْرَةَ مَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَحْدُثَ إِلَّا بِمَا حَدَثَتْ بِهِ وَهُوَ تَأْثِيرُ هَذَا الْقُرْآنِ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ أَشَدَّ الْأُمَمِ الْبَدَوِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ اسْتِعْدَادًا فِطْرِيًّا لِظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِيهَا بِالْإِقْنَاعِ كَمَا بَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي كِتَابِنَا (خُلَاصَةِ السِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ) وَسَنُلِمُّ بِهِ قَرِيبًا.
ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى الْمَعْرِفَةِ وَإِنْ خَالَفَ مُقْتَضَى الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، وَالتَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ. إِنَّ مُجَرَّدَ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يَكْفِي فِي الْحَمْلِ عَلَى الْتِزَامِ الْحَقِّ وَنَصْرِهِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَلَا فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ إِذَا عَارَضَ الْمُقْتَضَى الْعِلْمِيَّ لَهُمَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنَ الْمَوَانِعِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ مِنَ النَّاسِ دُونَ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ. بَلْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي تَثْبِيتِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فِي النَّفْسِ وَصُدُورِ آثَارِهِمَا عَنْهُمَا بِالْعَمَلِ، إِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى صَيْرُورَةِ الْإِيمَانِ بِهِمَا إِذْعَانًا وِجْدَانِيًّا حَاكِمًا عَلَى الْقَلْبِ، رَاجِحًا عَلَى مَا يُخَالِفُهُ مِنْ رَغَبٍ وَرَهَبٍ


الصفحة التالية
Icon