يُصَوِّرُهَا عَلَى أَوْضَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنِ انْتِصَابٍ وَانْحِنَاءٍ، وَمَيْلٍ وَالْتِوَاءٍ، وَإِقْبَالٍ وَإِدْبَارٍ، وَهُوَ لَا يُفَكِّرُ فِي غَيْرِ إِتْقَانِ صِنَاعَتِهِ، فَعَرَضَ لَهَا دُوَارٌ فِي رَأْسِهَا، فَجَلَسَتْ عَلَى أَرِيكَةٍ لِلِاسْتِرَاحَةِ فَجَلَسَ بِجَانِبِهَا، وَأَنْشَأَ يُلَاعِبُهَا وَيُدَاعِبُهَا وَهِيَ سَاكِنَةٌ سَاكِتَةٌ، فَتَنَبَّهَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الشُّعُورِ مَا كَانَ غَافِلًا أَوْ نَائِمًا، فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَتَمَنَّعَتْ بَلِ امْتَنَعَتْ، فَعَرَضَ عَلَيْهَا الْمَالَ فَأَعْرَضَتْ، فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ حُرَّةٌ فِي نَفْسِكِ، وَلَكِنِّي أَرْجُو مِنْكِ أَنْ تُجِيبِينِي عَنْ سُؤَالٍ عِلْمِيٍّ هُوَ مَا بَيَانُ سَبَبِ هَذَا الِامْتِنَاعِ؟ قَالَتْ: سَبَبُهُ أَنَّنِي عَاهَدْتُ رَجُلًا يُحِبُّنِي وَأُحِبُّهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَّا لِلْآخَرِ لَا يُشْرِكُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ أَحَدًا، وَلَا يَبْتَغِي بِهِ بَدَلًا، فَقَالَ لَهَا: إِنِّي أَهَنْتُكِ وَأَحْتَرِمُ وَفَاءَكِ هَذَا، ثُمَّ أَتَمَّ صِنَاعَتَهُ وَنَقَدَهَا الْجُعْلَ الْمُعَيَّنَ فَأَخَذَتْهُ وَانْصَرَفَتْ.
وَالرَّاجِحُ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ لَمْ تَشْتَهِ مُوَاتَاةَ هَذَا الرَّجُلِ فَتُجَاهِدُ نَفْسَهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَأَنَّ الْمَانِعَ مِنِ اشْتِهَائِهِ تَوْطِينُ نَفْسِهَا عَلَى الْوَفَاءِ لِعَشِيقِهَا الْأَوَّلِ، حَتَّى لَمْ تَعُدْ تَتَوَجَّهُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِغَيْرِهِ، وَتَوْجِيهُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ أَوْ عَنْهُ هُوَ صَاحِبُ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى عَلَى الْإِرَادَةِ، وَتَرْبِيَةُ الْإِرَادَةِ هِيَ أَصْلُ التَّخَلُّقِ بِالْفَضَائِلِ وَالتَّخَلِّي عَنِ الرَّذَائِلِ بِاتِّفَاقِ الْحُكَمَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ، وَيُسَمِّي هَؤُلَاءِ سَالِكَ طَرِيقِ الْحَقِّ مُرِيدًا،
وَالْوَاصِلُ إِلَى غَايَتِهِ مُرَادًا، أَيْ مُجْتَبًى مُخْتَارًا، وَهُوَ لَا يَكُونُ عَلَى كَمَالِهِ إِلَّا لِأَصْحَابِ الْإِيمَانِ الْيَقِينِيِّ الْوِجْدَانِيِّ، وَمَنْ ذَاقَ عَرَفَ، وَمَنْ حُرِمَ انْحَرَفَ، كَمَا قَالَ أُسْتَاذُنَا فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ، وَلَقَدْ عَجِبْنَا أَنْ أَنْكَرَ عَلَيْنَا بَعْضُ الْمَحْرُومِينَ عَنْ هَذَا مِمَّنْ نَعُدُّهُمْ بِحَقٍّ مِنَ الصَّالِحِينَ قَوْلَنَا فِي الْمَقْصُورَةِ الرَّشِيدِيَّةِ فِيمَنِ امْتَنَعَ مِنْ رُقْيَةِ صَدْرِ فَتَاةٍ حَسْنَاءَ:

أَتَتْ فَتًى خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ مَا زَالَ يَنْهَى نَفْسَهُ عَنِ الْهَوَى
لَمْ يَقْتَرِفْ فَاحِشَةً قَطُّ وَلَمْ يَعْزِمْ وَلَا هَمَّ بِهَا وَلَا نَوَى
بِغِرَّةٍ مِنْهَا وَصَفْوِ نِيَّةٍ فِي مَعْزِلٍ تُشَهِّيهِ أَقْصَى مَا اشْتَهَى
مِمَّا يُمَنِّيهِ بِهِ شَيْطَانُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَطْمَعُ مِنْهُ فِي خَنَا
لَكِنَّهُ اسْتَعْصَمَ رَاوِيًا لَهَا مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَمَا نَهَى
إِذْ ظَنَّ الْمُنْكِرُ فِيهِ أَنَّهُ فَضَّلَ نَفْسَهُ عَلَى يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَاكَ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَعْظَمَ مَزَايَا الْبَشَرِ فِي قُوَّةِ الْإِرَادَةِ فَلَوْلَاهَا لَكَانَ الْإِنْسَانُ كَالْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ عَبْدَ الطَّبِيعَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْمُرَاوَدَةُ احْتِيَالًا لِتَحْوِيلِ الْإِرَادَةِ وَجَعْلِهَا خَاضِعَةً لِلْمُرَاوِدِ، وَإِنَّمَا يَظْفَرُ فِيهَا مَنْ كَانَتْ إِرَادَتُهُ أَقْوَى، وَفَوْقَ ذَلِكَ عِنَايَةُ اللهِ - تَعَالَى - (فَتَأَمَّلْ وَتَدَبَّرْ).
فَإِذَا كَانَ فِي أَهْلِ الْإِبَاحَةِ وَالْحُرِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ مَنْ تَمْلِكُ إِرَادَتَهَا وَلَا تَلِينُ لِمُرَاوِدِهَا، وَلَا يُغْرِيهَا


الصفحة التالية
Icon