وَوُصِفَتْ فِي الْقُرْآنِ بِمَا وُصِفَتْ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ
السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (٤: ١٧) وَقَوْلِهِ: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) (٥: ٣٩) وَفِي مَعْنَاهُ آيَاتٌ أُخْرَى، وَقَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٣: ١٣٥) وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا.
وَهَذِهِ السُّنَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ مُطَّرِدَةٌ فِي ذُنُوبِ الْأُمَمِ الْمَقْصُودَةِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ، وَهِيَ فِيهَا أَظْهَرُ مِنْهَا فِي ذُنُوبِ الْأَفْرَادِ (كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ) فَالْأُمَمُ الَّتِي تُصِرُّ عَلَى الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، يُهْلِكُهَا اللهُ - تَعَالَى - فِي الدُّنْيَا بِالضَّعْفِ وَالشِّقَاقِ وَخَرَابِ الْعُمْرَانِ، حَتَّى تَزُولَ مَنَعَتُهَا، وَتَتَمَزَّقَ دَوْلَتُهَا، فَتَنْقَرِضَ أَوْ تَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا دَوْلَةٌ أُخْرَى، فَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي تَوَارِيخِ الْأُمَمِ مِنْ أَحْوَالِهَا الْعَامَّةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَأَمَّا أَقْوَامُ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فِي عُصُورِهِمْ فَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ الْمُصِرِّينَ مِنْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِعَذَابِ الْخِزْيِ وَالِاسْتِئْصَالِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعِهَا، وَأَقْرَبُهَا عَهْدًا أَوَاخِرُ سُورَةِ يُونُسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْآيَةُ تَتَضَمَّنُ نَجَاةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُونُسَ أَيْضًا، وَسَنَعُودُ إِلَى بَيَانِ هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ (١٠٠ - ١٠٣) الَّتِي خُتِمَتْ بِهَا قَصَصُ الرُّسُلِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) فَهُوَ عَامٌّ مُطْلَقٌ فِي جَزَاءِ الْأَفْرَادِ فِي الْآخِرَةِ، مُقَيَّدٌ فِي جَزَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْمِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، إِنْ تَجْتَنِبُوا الشِّرْكَ وَتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتَسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، وَتَتُوبُوا إِلَيْهِ عَقِبَ كُلِّ ذَنْبٍ يَقَعُ مِنْكُمْ، يُمَتِّعْكُمْ بِجُمْلَتِكُمْ وَمَجْمُوعِكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا تَكُونُونَ بِهِ خَيْرَ الْأُمَمِ نِعْمَةً وَقُوَّةً وَعِزَّةً وَدَوْلَةً، وَيُعْطِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ جَزَاءَ فَضْلِهِ فِي الْآخِرَةِ مُطَّرِدًا كَامِلًا، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْجَزَاءُ جُزْئِيًّا نَاقِصًا، وَمَشُوبًا لَا خَالِصًا، وَلَا يَكُونُ عَامًّا كَامِلًا مُطَّرِدًا لِقِصَرِ أَعْمَارِ الْأَفْرَادِ، وَالتَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ فِي سُنَنِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَهَذَا مِنْ أَدِلَّةِ الْبَعْثِ وَجَزَاءِ الْآخِرَةِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ عَدْلُهُ - تَعَالَى - كَامِلًا شَامِلًا.
وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي وَفَّقَنَا اللهُ - تَعَالَى - لَهُ يَظْهَرُ مَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا مِنْ أَنَّ ثَمَرَةَ الدِّينِ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كِلْتَيْهِمَا، وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ الْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ يُعَارِضُونَ أَمْثَالَ هَذِهِ النُّصُوصِ بِمَا جَعَلُوهُ أَصْلًا يُرْجِعُونَهَا إِلَيْهِ بِالتَّأْوِيلِ، كَأَحَادِيثِ ذَمِّ الدُّنْيَا وَتَسْمِيَتِهَا ((سِجْنَ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةَ الْكَافِرِ)) وَمَا يَصِحُّ مِنْهَا كَهَذَا الْحَدِيثِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النِّسْبَةِ بَيْنَهُمَا، بِالْإِضَافَةِ إِلَى حَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحَدِيثِ ((أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ)) وَهُوَ صَحِيحٌ