بِالِاسْتِقَامَةِ،
وَشُكْرِ الدَّائِنِ بِالِاعْتِرَافِ بِحَقِّهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، ثُمَّ نَهَاهُ بَعْدَ هَذَا الْأَمْرِ الْمُؤَكَّدِ أَنَّ يَبْخَسَ مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عُرْضَهٌ لِلطَّمَعِ فَرُبَّمَا يَسْتَخِفُّهُ طَمَعُهُ إِلَى نَقْصِ شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ أَوِ الْإِبْهَامِ فِي الْإِقْرَارِ الَّذِي يُمْلِي عَلَى الْكَاتِبِ تَمْهِيدًا لِلْمُحَاوَلَةِ وَالْمُمَاطَلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا التَّأْكِيدُ بِالنَّهْيِ بَعْدَ الْأَمْرِ لِمُقَاوَمَةِ هَذَا الْأَمْرِ.
[٥] فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ذِكْرُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مُظْهَرًا فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ الْكَشْفِ وَالْبَيَانِ كَمَا قَالُوا، وَفَسَّرَ السَّفِيهَ بِضَعِيفِ الرَّأْيِ، أَيْ مَنْ لَا يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ لِضَعْفِ عَقْلِهِ وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَقِيلَ: هُوَ الْعَاجِزُ الْأَحْمَقُ. وَقِيلَ: الْجَاهِلُ بِالْإِمْلَالِ، وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: هُوَ الْمُبَذِّرُ لِمَالِهِ الْمُفْسِدُ لِدِينِهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ. وَالضَّعِيفُ: الصَّبِيُّ وَالشَّيْخُ الْهَرِمُ. وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِمْلَالَ: هُوَ الْجَاهِلُ وَالْأَلْكَنُ وَالْأَخْرَسُ. وَوَلِيُّ الْإِنْسَانِ مَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَهُ وَيَقُومُ بِهَا عَنْهُ، وَقَدِ اكْتَفَى فِي أَمْرِ الْوَلِيِّ بِالْعَدْلِ كَالْكَاتِبِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ وَلَيُّهُ بِمِثْلِ مَا أُمِرَ وَنُهِيَ بِهِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ مَنْ يَبِيعُ دِينَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَبِيعُ دِينَهُ بِدُنْيَا نَفْسِهِ.
[٦] وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ أَيِ اطْلُبُوا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ رَجُلَانِ مِمَّنْ حَضَرَ ذَلِكَ مِنْكُمْ أَوْ أَشْهِدُوهَا عَلَى ذَلِكَ، فَالشَّهِيدُ مَنْ شَهِدَ الشَّيْءَ وَحَضَرَهُ بِإِمْعَانٍ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَاسْتَشْهَدَهُ سَأَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ ; أَيْ أَنْ تَكُونَ شَاهِدًا بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَيُطْلَقُ الشَّهِيدُ عَلَى الْأَمِينِ فِي الشَّهَادَةِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَلَعَلَّ الْوَصْفَ مُنْتَزَعٌ مِنْ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَلَكِنْ حَمَلَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَلَى الشَّهِيدِ اسْمًا لِلَّهِ - تَعَالَى - وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ مَعَ الصِّيغَةِ عَلَى أَنَّ وَصْفَ الْكَمَالِ مُعْتَبَرٌ فِيمَنْ يُسْتَشْهَدُ، كَمَا اعْتُبِرَ مِثْلُهُ فِي الْكَاتِبِ وَالْوَلِيِّ، وَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَعْنَى الشَّهِيدِ يَرُدُّ قَوْلَ الْقَائِلِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهِيدَيْنِ مَنْ سَيَكُونَانِ شَاهِدَيْنِ بِذَلِكَ الْحَقِّ مِنْ بَابِ مَجَازِ الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ رِجَالِكُمْ وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْتَشْهِدُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، وَكَوْنُ اسْتِشْهَادِ غَيْرِهِمْ لَيْسَ مَشْرُوعًا لَهُمْ أَوْ لَيْسَ جَائِزًا عَمَلًا
بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ لَا يُعَدُّ نَصًّا عَلَى أَنَّ شَهَادَتَهُ إِذَا هُوَ شَهِدَ لَا تَصِحُّ أَوْ لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ، وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى شُرُوطٍ فِي الشَّهَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْهَا: الْإِسْلَامُ وَالْعَدَالَةُ ; لِهَذِهِ الْآيَةِ وَلِقَوْلِهِ: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [٦٥: ٢] وَجَعَلُوا قَوْلَهُ - تَعَالَى - فِي آيَةِ الْوَصِيَّةِ: اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [٥: ١٠٦] خَاصًّا بِمِثْلِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَأَوَّلَهَا بَعْضُهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي فِي مَحَلِّهِ، وَلَا أَحْفَظُ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ شَيْئًا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ حَقَّقَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ الْبَيِّنَةَ فِي الشَّرْعِ أَعَمُّ مِنَ الشَّهَادَةِ، فَكُلُّ مَا تَبَيَّنَ بِهِ الْحَقُّ بَيَّنَهُ، كَالْقَرَائِنِ الْقَطْعِيَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَدْخُلَ شَهَادَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فِي الْبَيِّنَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي اسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاللُّغَةِ إِذَا تَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ بِهَا الْحَقُّ.


الصفحة التالية
Icon