فَأَخْبَرَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَلَا يُؤَاخِذُهَا إِلَّا عَلَى مَا كَلَّفَهَا، فَهُمْ مُكَلَّفُونَ بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَمُجَاهَدَتِهَا بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ وَالطَّاقَةِ وَطَلَبِ الْعَفْوِ عَمَّا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ قَدْ خَافَ أَنْ تَدْخُلَ الْوَسْوَسَةُ وَالشُّبْهَةُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ دَفْعِهَا فِي عُمُومِ الْآيَةِ، فَكَانَ مَا بَعْدَهَا مُبَيِّنًا لِغَلَطِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا تَسْمِيَةُ بَعْضِهِمْ ذَلِكَ نَسْخًا فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: بِأَنَّهُ عَبَّرَ بِالنَّسْخِ عَنِ الْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ تَجَوُّزًا. وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّسْخُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ الْإِزَالَةُ وَالتَّحْوِيلُ لَا الِاصْطِلَاحِيُّ ; أَيْ إِنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ كَانَتْ مُزِيلَةً لِمَا أَخَافَهُمْ مِنَ الْأُولَى أَوْ مُحَوِّلَةً لَهُ إِلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابِيُّ لَمْ يَنْطِقْ بِلَفْظِ النَّسْخِ، وَإِنَّمَا فَهِمَهُ الرَّاوِي مِنَ الْقِصَّةِ فَذَكَرَهُ، وَكَثِيرًا مَا يَرْوُونَ الْأَحَادِيثَ الْمَرْفُوعَةَ بِالْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّصِّ الْمَرْفُوعِ، وَرَأْيُ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ، لَا سِيَّمَا إِذَا خَالَفَ ظَاهِرُهُ الْكِتَابَ، وَإِنَّنِي لَا أَعْتَقِدُ صِحَّةَ سَنَدِ حَدِيثٍ وَلَا قَوْلِ عَالَمٍ صَحَابِيٍّ يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ، وَإِنْ وَثَّقُوا رِجَالَهُ فَرُبَّ رَاوٍ يُوَثَّقُ لِلِاغْتِرَارِ بِظَاهِرِ حَالِهِ، وَهُوَ سَيِّئُ الْبَاطِنِ وَلَوِ انْتُقِدَتِ الرِّوَايَاتُ مِنْ جِهَةِ فَحْوَى مَتْنِهَا كَمَا تُنْتَقَدُ مِنْ جِهَةِ سَنَدِهَا لَقَضَتِ الْمُتُونُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَسَانِيدِ بِالنَّقْضِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ مِنْ عَلَامَةِ الْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ مُخَالَفَتُهُ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَوِ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْ لِلْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَوْ لِلْحِسِّ وَالْعِيَانِ وَسَائِرِ الْيَقِينِيَّاتِ.
أَمَّا إِبْدَاءُ مَا فِي النَّفْسِ فَهُوَ إِظْهَارُهُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ، وَأَمَّا إِخْفَاؤُهُ فَهُوَ ضِدُّهُ وَالْإِبْدَاءُ وَالْإِخْفَاءُ سِيَّانِ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [٤٠: ١٩] فَالْمَدَارُ فِي مَرْضَاتِهِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَطَهَارَةِ السَّرِيرَةِ لَا عَلَى لَوْكِ اللِّسَانِ وَحَرَكَاتِ الْأَبْدَانِ، وَأَمَّا الْمُحَاسَبَةُ فَهِيَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَإِنْ فَسَّرَهَا بَعْضٌ بِالْعِلْمِ، وَبَعْضٌ بِالْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ غِبُّهَا وَلَازِمُهَا، ذَلِكَ أَنَّ لِلنُّفُوسِ فِي اعْتِقَادَاتِهَا وَمَلَكَاتِهَا وَعَزَائِمِهَا وَإِرَادَتِهَا مَوَازِينَ يُعْرَفُ بِهَا يَوْمَ الدِّينِ رُجْحَانُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ أَوِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ هِيَ أَدَقُّ مِمَّا وَضَعَ الْبَشَرُ مِنْ مَوَازِينِ الْأَعْيَانِ وَمَوَازِينِ الْأَعْرَاضِ كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [٢١: ٤٧] وَسَيَأْتِي قَوْلُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ.
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ أَيْ فَهُوَ بِمَا لَهُ مِنَ الْمُلْكِ الْمُطْلَقِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَيُعَذِّبُ مَنْ شَاءَ عَذَابَهُ. وَقَرَأَ غَيْرُ ابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ بِجَزْمِ: (يَغْفِرْ وَيُعَذِّبْ). بِالْعَطْفِ عَلَى يُحَاسِبْكُمْ وَإِنَّمَا يَشَاءُ مَا فِيهِ الرَّحْمَةُ وَالْعَدْلُ وَالْحِكْمَةُ، وَالْأَصْلُ فِي الْعَدْلِ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ السَّيِّئُ عَلَى قَدْرِ الْإِسَاءَةِ وَتَأْثِيرِهَا فِي تَدْسِيَةِ نُفُوسِ الْمُسِيئِينَ، وَالْجَزَاءُ الْحَسَنُ عَلَى قَدْرِ الْإِحْسَانِ وَتَأْثِيرِهِ فِي أَرْوَاحِ الْمُحْسِنِينَ، وَلَكِنَّهُ - تَعَالَى - بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ يُضَاعِفُ جَزَاءَ الْحَسَنَةِ عَشَرَةَ أَضْعَافٍ وَيَزِيدُ مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُضَاعِفُ السَّيِّئَةَ، وَالْآيَاتُ الْمُفَصَّلَةُ فِي هَذَا


الصفحة التالية
Icon