وَمَا هُوَ حَاضِرٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا يَسْتَقْبِلُهُمْ وَكَانَ مَا يُجَازِيهِمْ بِهِ مَبْنِيًّا عَلَى هَذَا الْعِلْمِ كَانَتِ الشَّفَاعَةُ الْمَعْهُودَةُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ - تَعَالَى - ; لِأَنَّهَا لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِإِعْلَامِ الشَّفِيعِ الْمَشْفُوعَ عِنْدَهُ مِنْ أَمْرِ الْمَشْفُوعِ لَهُ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ. مِثَالُ ذَلِكَ: إِذَا أَرَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنْ يَنْفِيَ رَجُلًا مِنَ الْمَدِينَةِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ ذَلِكَ - وَهُوَ عَادِلٌ - إِلَّا إِذَا كَانَ يَعْتَقِدُ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ بِأَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُفْسِدًا ضَارًّا بِالنَّاسِ، فَإِذَا شَفَعَ لَهُ شَافِعٌ وَلَمْ يُبَيِّنْ لِعُمَرَ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي بَقَائِهِ دُونَ نَفْيِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ شَفَاعَتَهُ ; هَذَا إِذَا كَانَتِ الشَّفَاعَةُ عِنْدَ سُلْطَانٍ عَادِلٍ كَعُمَرَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَيَجُوزُ أَنْ تُقْبَلَ وَيُتْرَكَ نَفْيُ الْمُفْسِدِ الضَّارِّ بِالنَّاسِ لِأَجْلِ مَرْضَاةِ الشَّفِيعِ، كَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْوَانِ السُّلْطَانِ وَبِطَانَتِهِ الَّذِينَ يُؤْثِرُ مَرْضَاتِهِمْ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ ; لِأَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَ هَوَاهُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالِ يَظُنُّ الْغَافِلُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَيْسَ فِيهَا إِعْلَامُ الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ بِمَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ وَلَوْ
رَجَعَ نَظَرَ الْبَصِيرَةِ لَرَأَى أَنَّ الشَّفِيعَ قَدْ أَعْلَمَ السُّلْطَانَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْجَانِيَ مِمَّنْ يَلُوذُ بِهِ وَيُهِمُّهُ شَأْنُهُ وَيُرْضِيهِ بَقَاؤُهُ وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ. فَالشَّفَاعَةُ الْمَعْرُوفَةُ الَّتِي يَغْتَرُّ بِهَا الْكَافِرُونَ وَالْفَاسِقُونَ وَيَظُنُّونَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَرْجِعُ عَنْ تَعْذِيبِ مَنِ اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ مِنْهُمْ لِأَجْلِ أَشْخَاصٍ يَنْتَظِرُونَ شَفَاعَتَهُمْ هِيَ مِمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - لِأَنَّهَا - وَهِيَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ - تَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ وَهُوَ ذُو الْعِلْمِ الْمُحِيطِ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا مِنْكَ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى التَّصَدِّي لِإِعْلَامِكَ بِهِ، فَمَاذَا عَسَى أَنْ يَقُولَ مَنْ يُرِيدُ الشَّفَاعَةَ عِنْدَهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَعْهَدُهُ النَّاسُ وَيَغْتَرُّ بِهِ الْحَمْقَى الَّذِينَ يَرْجُونَ النَّجَاةَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ بِدُونِ مَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الدُّنْيَا؟
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنِهِ، وَإِذْنُهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنْهُ - تَعَالَى -، يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ تَرَقٍّ فِي نَفْيِهَا مِنْ دَلِيلٍ إِلَى آخَرَ، أَيْ إِذَا أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ شَفَاعَةٌ بِمَعْنَى آخَرَ يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ - تَعَالَى - كَالدُّعَاءِ الْمَحْضِ، فَإِنَّهُ لَا يَجْرُؤُ عَلَيْهَا أَحَدٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَصِيبِ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ - تَعَالَى -، وَإِذْنُهُ - تَعَالَى - مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ فَلَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ إِلَّا إِذَا شَاءَ إِعْلَامَهُ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا يُعْرَفُ إِذْنُهُ - تَعَالَى - بِمَا حَدَّدَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي كِتَابِهِ، أَيْ فَمَنْ بُيِّنَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِعِقَابِهِ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ لَا يَجْرُؤُ أَحَدٌ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ بِالنَّجَاةِ، وَمَنْ بُيِّنَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِرِضْوَانِهِ عَلَى هَفَوَاتٍ أَلَمَّ بِهَا لَمْ تُحَوِّلْ وَجْهَهُ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - إِلَى الْبَاطِلِ وَالْفَسَادِ الَّذِي يَطْبَعُ عَلَى الرُّوحِ فَتَسْتَرْسِلُ فِي الْخَطَايَا حَتَّى تُحِيطَ بِهَا وَتَمْلِكَ عَلَيْهَا أَمْرَهَا، فَذَلِكَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ، مُنْتَهٍ إِلَيْهِ بِوَعْدِ اللهِ فِي كِتَابِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى عِبَادِهِ - كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ.
ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالُوا إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِلَّا بِإِذْنِهِ وَاقِعٌ. وَهُوَ أَنَّ نَبِيَّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَشْفَعُ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ فَيُفْتَحُ بَابُ الشَّفَاعَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الشُّفَعَاءِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أَنْكَرَهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَأَثْبَتَهَا أَهْلُ السُّنَّةِ،