وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تُذْكَرُ لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّهْدِيدِ، أَيْ فَهِيَ تُفَسَّرُ بِحَسَبِ الْمَقَامِ كَمَا قُلْنَا. فَهِيَ جَامِعَةٌ هُنَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
وَرَدَ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [١٠: ٩٩] وَيُؤَيِّدُهُمَا الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ الدِّينَ هِدَايَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ لِلنَّاسِ تَعْرِضُ عَلَيْهِمْ مُؤَيِّدَةً بِالْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَأَنَّ الرُّسُلَ لَمْ يُبْعَثُوا جَبَّارِينَ وَلَا مُسَيْطِرِينَ، وَإِنَّمَا بُعِثُوا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَلَكِنْ يَرِدُ
عَلَيْنَا أَنَّنَا قَدْ أُمِرْنَا بِالْقِتَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حِكْمَةِ ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بُنِيَ النَّضِيرِ إِذْ أَرَادَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ إِجْبَارَ أَوْلَادَهُمِ الْمُتَهَوِّدِينَ أَنْ يُسْلِمُوا وَلَا يَكُونُوا مَعَ بَنِي النَّضِيرِ فِي جَلَّائِهِمْ كَمَا مَرَّ، فَبَيَّنَ اللهُ لَهُمْ أَنَّ الْإِكْرَاهَ مَمْنُوعٌ وَأَنَّ الْعُمْدَةَ فِي دَعْوَةِ الدِّينِ بَيَانُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، وَأَنَّ النَّاسَ مُخَيَّرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَبُولِهِ وَتَرْكِهِ. شُرِعَ الْقِتَالُ لِتَأْمِينِ الدَّعْوَةِ وَلِكَفِّ شَرِّ الْكَافِرِينَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، لِكَيْلَا يُزَعْزِعُوا ضَعِيفَهُمْ قَبْلَ أَنْ تَتَمَكَّنَ الْهِدَايَةُ مِنْ قَلْبِهِ، وَيَقْهَرُوا قَوِيَّهُمْ بِفِتْنَتِهِ عَنْ دِينِهِ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي مَكَّةَ جَهْرًا وَلِذَلِكَ قَالَ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [٢: ١٩٣] أَيْ حَتَّى يَكُونَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ آمِنًا مِنْ زَلْزَلَةِ الْمُعَانِدِينَ لَهُ بِإِيذَاءِ صَاحِبِهِ فَيَكُونَ دِينُهُ خَالِصًا لِلَّهِ غَيْرَ مُزَعْزَعٍ وَلَا مُضْطَرِبٍ، فَالدِّينُ لَا يَكُونُ خَالِصًا لِلَّهِ إِلَّا إِذَا كُفَّتِ الْفِتَنُ عَنْهُ وَقَوِيَ سُلْطَانُهُ حَتَّى لَا يَجْرُؤَ عَلَى أَهْلِهِ أَحَدٌ (قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : وَإِنَّمَا تُكَفُّ الْفِتَنُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
(الْأَوَّلُ) إِظْهَارُ الْمُعَانِدِينَ الْإِسْلَامَ وَلَوْ بِاللِّسَانِ ; لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنْ خُصُومِنَا وَلَا يُبَارِزُنَا بِالْعَدَاءِ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ كَلِمَتُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَيَكُونُ الدِّينُ لِلَّهِ وَلَا يُفْتَنُ صَاحِبُهُ فِيهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ.
(وَالثَّانِي) - وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى عَدَمِ الْإِكْرَاهِ - قَبُولُ الْجِزْيَةِ، وَهِيَ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ يُعْطُونَنَا إِيَّاهُ جَزَاءَ حِمَايَتِنَا لَهُمْ بَعْدَ خُضُوعِهِمْ لَنَا، بِهَذَا الْخُضُوعِ نَكْتَفِي شَرَّهُمْ وَتَكُونُ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَاعِدَةٌ كُبْرَى مِنْ قَوَاعِدِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَرَكْنٌ عَظِيمٌ مِنْ أَرْكَانِ سِيَاسَتِهِ فَهُوَ لَا يُجِيزُ إِكْرَاهَ أَحَدٍ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ، وَلَا يَسْمَحُ لِأَحَدٍ أَنَّ يُكْرِهَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا نَكُونُ مُتَمَكِّنِينَ مِنْ إِقَامَةِ هَذَا الرُّكْنِ وَحِفْظِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ إِذَا كُنَّا أَصْحَابَ قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ نَحْمِي بِهَا دِينَنَا وَأَنْفُسَنَا مِمَّنْ يُحَاوِلُ فِتْنَتَنَا فِي دِينِنَا اعْتِدَاءً عَلَيْنَا بِمَا هُوَ آمِنٌ أَنْ نَعْتَدِيَ بِمِثْلِهِ عَلَيْهِ إِذْ أَمَرَنَا أَنْ نَدْعُوَ إِلَى سَبِيلِ رَبِّنَا بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَأَنْ نُجَادِلَ الْمُخَالِفِينَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مُعْتَمِدِينَ عَلَى تَبَيُّنِ الرُّشْدِ مِنَ الْغَيِّ بِالْبُرْهَانِ: هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ إِلَى الْإِيمَانِ، مَعَ حُرِّيَّةِ الدَّعْوَةِ، وَأَمْنِ الْفِتْنَةِ، فَالْجِهَادُ مِنَ الدِّينِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ; أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جَوْهَرِهِ وَمَقَاصِدِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ سِيَاجٌ لَهُ وَجُنَّةٌ، فَهُوَ أَمْرٌ سِيَاسِيٌّ


الصفحة التالية
Icon