فِي التَّسْلِيمِ بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّصُّ مِنْ آيَاتِ اللهِ - تَعَالَى -، وَأَخْذِهَا عَلَى ظَاهِرِهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ دُونَ الْمُسْتَحِيلَاتِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ هَذَا السُّبَاتِ الطَّوِيلِ الَّذِي لَمْ يَعْهَدْهُ أَكْثَرُهُمْ لِأَجْلِ تَقْرِيبِ إِمْكَانِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَذْهَانِ الَّذِينَ يَعْسُرُ عَلَيْهِمُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا يُسْتَبْعَدُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْلُوفٍ، وَمَا هُوَ مُحَالٌ لَا يَقْبَلُ الثُّبُوتَ لِذَاتِهِ.
قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ أَيْ لَمْ يَفْسُدْ بِمُرُورِ السِّنِينَ. أَقُولُ: لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا - تَعَالَى - نَوْعَ ذَلِكَ الطَّعَامِ وَذَلِكَ الشَّرَابِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُعَدُّ بَقَاؤُهُ مِائَةَ عَامٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُدِلُّ رَائِيَهَا عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ مِنْ قُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَإِلَّا فَإِنَّ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَا لَا يَفْسُدُ بِطُولِ السِّنِينَ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ فَقِيلَ: مَعْنَاهُ انْظُرْ كَيْفَ مَاتَ وَتَفَرَّقَتْ أَوْ تَفَتَّتَتْ عِظَامُهُ، فَلَوْلَا طُولُ الْمُدَّةِ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ انْظُرْ كَيْفَ بَقِيَ حَيًّا طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ مَنْ يَعْتَنِي بِشَأْنِهِ، كَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ مِنْ حَيْثُ الْعَطْفُ وَلَا مَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي الْكَلَامِ، فَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ فِعْلًا مَحْذُوفًا أَيْ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ فَعَلْنَا مَا فَعَلْنَا مِنَ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لِنُزِيلَ تَعَجُّبَكَ وَنُرِيَكَ آيَاتِنَا فِي نَفْسِكَ وَطَعَامِكَ وَشَرَابِكَ وَحِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ، فَالْعَطْفُ دَلَّنَا عَلَى الْمَحْذُوفِ الْمَطْوِيِّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً وَهَذَا مِنْ لَطَائِفَ إِيجَازِ الْقُرْآنِ، أَمَّا كَوْنُ مَا رَأَى آيَةً لَهُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُ هُوَ آيَةً لِلنَّاسِ فَهُوَ أَنَّ عِلْمَهُمْ بِمَوْتِهِ مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بِحَيَاتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُ كَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ لَا يَزَالُ شَابًّا وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ قَدْ شَابُوا وَهَرَمُوا، وَقَدْ عَرَفُوهُ وَعَرَفَهُمْ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ بَدَنَهُ لَمْ يَعْمَلْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْأَعْمَالَ الَّتِي تُضْنِيهِ وَتُذْهِبُ بِمَاءِ الشَّبَابِ مِنْهُ فَتُهْرِمُهُ، بَلْ حُفِظَتْ لَهُ حَالَتَهُ الَّتِي تُوُفِّيَتْ نَفْسُهُ وَهُوَ عَلَيْهَا.
ثُمَّ قَالَ: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ " نُنْشِرُهَا " - بِالرَّاءِ - مِنَ الْإِنْشَارِ - وَالْبَاقُونَ - بِالزَّايِ - مِنَ الْإِنْشَازِ. قَالَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْحِمَارَ مَاتَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعِظَامِ هُنَا عِظَامُهُ، وَمَعْنَى نُنْشِزُهَا نَرْفَعُهَا وَنُرَكِّبُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَمَعْنَى " نُنْشِرُهَا ": نُحْيِيهَا، وَلَا مَنْدُوحَةَ لِمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْحِمَارَ كَانَ لَا يَزَالُ حَيًّا مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِظَامِ جِنْسُهَا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَرَاهُ الْآيَةَ الَّتِي تَكُونُ حُجَّةً خَاصَّةً لِمَنْ رَآهَا نَبَّهَهُ إِلَى الْحُجَّةِ الْعَامَّةِ، وَالدَّلِيلِ الثَّابِتِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ تَحْتَجَّ بِهِ عَلَى الْبَعْثِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَهُوَ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - فِي تَكْوِينِ الْحَيَوَانِ وَإِنْشَاءِ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَالْإِنْشَاءُ مَعْنَاهُ: التَّقْوِيَةُ، وَالِانْتِشَارُ مَعْنَاهُ: التَّنْمِيَةُ ; لِأَنَّ الَّذِي يَنْمُو يَعْلُو وَيَرْتَفِعُ ; كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَمَا أَطْلَعْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْآيَاتِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تَدُلُّكَ عَلَى قُدْرَتِنَا عَلَى الْبَعْثِ نَهْدِيكَ إِلَى الْآيَةِ الْكُبْرَى الْعَامَّةِ وَهِيَ كَيْفِيَّةُ التَّكْوِينِ، وَإِنَّمَا


الصفحة التالية
Icon