وَقَدْ فَهِمَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، كَانَ قَلِقًا مُضْطَرِبًا فِي اعْتِقَادِهِ بِالْبَعْثِ وَذَلِكَ شَكٌّ فِيهِ، وَمَا أَبْلَدَ أَذْهَانَهُمْ وَأَبْعَدَ أَفْهَامَهُمْ عَنْ إِصَابَةِ الْمَرْمَى، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ نَحْنُ أَوْلَى بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ أَيْ أَنَّنَا نَقْطَعُ بِعَدَمِ شَكِّهِ كَمَا نَقْطَعُ بِعَدَمِ شَكِّنَا أَوْ أَشَدَّ قَطْعًا، نَعَمْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يُشْعِرُ، بِالشَّكِّ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يُؤْمِنُ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ إِيمَانًا يَقِينِيًّا وَهُوَ لَا يَعْرِفُ كَيْفِيَّتَهَا وَيَوَدُّ لَوْ يَعْرِفُهَا، فَهَذَا التِّلِغْرَافُ الَّذِي يَنْقُلُ الْخَبَرَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْغَرْبِ فِي دَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ يُوقِنُ بِهِ كُلُّ النَّاسِ فِي كُلِّ بَلَدٍ يُوجَدُ فِيهِ، وَيَقِلُّ فِيهِمُ الْعَارِفُ بِكَيْفِيَّةِ نَقْلِهِ لِلْخَبَرِ بِهَذَا السُّرْعَةِ، أَفَيُقَالُ فِيمَنْ طَلَبَ بَيَانَ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ إِنَّهُ شَاكٌّ بِوُجُودِ التِّلِغْرَافِ؟ طَلَبَ الْمَزِيدَ فِي الْعِلْمِ وَالرَّغْبَةِ فِي اسْتِكْنَاهِ الْحَقَائِقِ وَالتَّشَوُّفِ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَى أَسْرَارِ الْخَلِيقَةِ مِمَّا فَطَرَ اللهُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانَ، وَأَكْمَلُ النَّاسِ عِلْمًا وَفَهْمًا أَشَدُّهُمْ لِلْعِلْمِ طَلَبًا وَلِلْوُقُوفِ عَلَى الْمَجْهُولَاتِ تَشَوُّفًا، وَلَنْ يَصِلَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَقَتْلِ كُلِّ مَوْجُودٍ فِقْهًا وَفَهْمًا، وَقَدْ كَانَ طَلَبُ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رُؤْيَةَ كَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى بِعَيْنَيْهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَهُوَ طَلَبٌ لِلطُّمَأْنِينَةِ فِيمَا تَنْزِعُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ الْقُدْسِيَّةُ مِنْ مَعْرِفَةِ خَفَايَا أَسْرَارِ الرُّبُوبِيَّةِ. لَا طَلَبٌ فِي أَصْلِ عَقْدِ الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ الَّذِي عَرَفَهُ بِالْوَحْيِ وَالْبُرْهَانِ دُونَ الْمُشَاهَدَةِ وَالْعِيَانِ.
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ قَرَأَ حَمْزَةُ " فَصِرْهُنَّ " - بِكَسْرِ الصَّادِ - وَالْبَاقُونَ - بِضَمِّهَا - مَعَ تَخْفِيفِ الرَّاءِ فِيهِمَا، وَمَعْنَاهُ: أَمِلْهُنَّ وَضُمَّهُنَّ إِلَيْكَ. وَقِيلَ مَعْنَى قِرَاءَةِ - الْكَسْرِ - فَقَطِّعْهُنَّ، وَلَكِنَّهُ إِذَا كَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَعَدَّى بِـ " إِلَى " كَمَا تَقَدَّمَ، وَقُرِئَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَاهُ، وَمَعَ هَذَا قَالُوا: إِنَّهُ قَطَّعَهُنَّ، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي حِكْمَةِ اخْتِيَارِ الطَّيْرِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، فَقَالَ الرَّازِّيُّ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الطَّيْرَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْسَانِ وَأَجْمَعُ لِخَوَاصِّ الْحَيَوَانِ، وَلِسُهُولَةٍ تَأَتِّي مَا يُفْعَلُ بِهِ مِنَ
التَّقْطِيعِ وَالتَّجْزِئَةِ.
وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الطَّيْرَ أَكْثَرُ نُفُورًا مِنَ الْإِنْسَانِ فِي الْغَالِبِ، فَإِتْيَانُهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَةِ أَبْلَغُ فِي الْمَثَلِ، وَسَيَأْتِي الْوَجْهُ الْوَجِيهُ فِي تَفْسِيرِ أَبِي مُسْلِمٍ لِلْآيَةِ، ثُمَّ تَكَلَّمُوا فِي أَنْوَاعِهَا وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَتَكَلَّمُوا فِي أَرْبَعَةٍ فَقَالُوا: إِنَّهُ الْمُوَافِقُ لِعَدَدِ الطَّبَائِعِ، أَوْ لِعَدَدِ الرِّيَاحِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَتْ أَرْبَعَةً لِيَضَعَ فِي كُلِّ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ بَعْضَهَا وَهُوَ قَرِيبٌ، وَمَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ إِلَى التَّفْوِيضِ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَاصِمٍ " جُزُؤًا " - بِضَمِّ الزَّايِ - حَيْثُ وَقَعَ، وَالْبَاقُونَ - بِسُكُونِهَا - وَهُمَا لُغَتَانِ، قَالُوا: وَالْمَعْنَى جَزِّئْهُنَّ، وَاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا، وَرَوَوْا أَنَّهُ ذَبَحَ الطُّيُورَ وَنَتَفَهَا وَقَطَّعَهَا أَجْزَاءً وَخَلَّطَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَلَا يَدُلُّ


الصفحة التالية
Icon