وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ لِيَكُونَ مُفِيدًا لَهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ أَيْضًا، فَذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِمَنْزِلَةِ إِقْرَاضِهِ - تَعَالَى - وَوَعَدَ بِمُضَاعَفَتِهِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، ثُمَّ ضَرَبَ الْأَمْثَالَ وَذَكَرَ قَصَصَ الَّذِينَ بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ فِي سَبِيلِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ
الْبَعْثَ وَإِحْيَاءَ الْمَوْتَى وَانْتِهَاءَهُمْ إِلَى الدَّارِ الَّتِي يُوَفُّونَ فِيهَا أُجُورَهُمْ فِي يَوْمٍ لَا تَنْفَعُ فِيهِ فِدْيَةٌ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ، وَإِنَّمَا تَنْفَعُهُمْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي أَهَمُّهَا الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ الْمَثَلَ لِلْمُضَاعَفَةِ ; أَيْ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ أَمْرَ الْبَعْثِ بِالدَّلَائِلِ وَالْأَمْثَالِ إِذْ كَانَ الْإِيمَانُ بِهِ أَقْوَى الْبَوَاعِثِ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ.
قَالَ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهِيَ مَا يُوصِلُ إِلَى مَرْضَاتِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لَا سِيَّمَا مَا كَانَ نَفْعُهُ أَعَمَّ وَأَثَرُهُ أَبْقَى كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ أَيْ كَمَثَلِ أَبْرَكِ بَذْرٍ فِي أَخْصَبِ أَرْضٍ نَمَا أَحْسَنَ نُمُوٍّ فَجَاءَتْ غَلَّتُهُ مُضَاعَفَةً سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ وَذَلِكَ مُنْتَهَى الْخِصْبِ وَالنَّمَاءِ ; أَيْ أَنَّ هَذَا الْمُنْفِقَ يَلْقَى جَزَاءَهُ فِي الدُّنْيَا مُضَاعَفًا أَضْعَافًا كَثِيرَةً، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ سَابِقَةٍ. فَالتَّمْثِيلُ لِلتَّكْثِيرِ لَا لِلْحَصْرِ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ فَيَزِيدُهُ عَلَى ذَلِكَ زِيَادَةً لَا تُقَدَّرُ وَلَا تُحْصَرُ، فَذَلِكَ الْعَدَدُ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَلَا يُحَدُّ عَطَاؤُهُ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْمُضَاعَفَةَ مِنَ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ يَهْدِيهِمْ إِخْلَاصُهُمْ إِلَى وَضْعِ النَّفَقَاتِ فِي مَوَاضِعِهَا الَّتِي يَكْثُرُ نَفْعُهَا وَتَبْقَى فَائِدَتُهَا زَمَنًا طَوِيلًا، كَالْمُنْفِقِينَ فِي إِعْلَاءِ شَأْنِ الْحَقِّ وَتَرْبِيَةِ الْأُمَمِ عَلَى آدَابِ الدِّينِ وَفَضَائِلِهِ الَّتِي تَسُوقُهُمْ إِلَى سَعَادَةِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، حَتَّى إِذَا مَا ظَهَرَتْ آثَارُ نَفَقَاتِهِمُ النَّافِعَةِ فِي قُوَّةِ مُلْكِهِمْ وَسَعَةِ انْتِشَارِ دِينِهِمْ وَسَعَادَةِ أَفْرَادِ أُمَّتِهِمْ عَادَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَرَكَاتِ ذَلِكَ وَفَوَائِدِهِمْ مَا هُوَ مَا أَنْفَقُوا بِدَرَجَاتٍ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا. وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي الدَّرْسِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْفَاقِ هُنَا الْإِنْفَاقُ فِي خِدْمَةِ الدِّينِ، وَقَالَ فِي وَقْتٍ آخَرَ: إِنَّ كَلِمَةَ فِي سَبِيلِ اللهِ تَشْتَمِلُ جَمِيعَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ آنِفًا.
أَقُولُ: وَمَنْ أَرَادَ كَمَالَ الْبَيَانِ فِي ذَلِكَ فَلِيَعْتَبِرْ بِمَا يَرَاهُ فِي الْأُمَمِ الْعَزِيزَةِ الَّتِي يُنْفِقُ أَفْرَادُهَا مَا يُنْفِقُونَ فِي إِعْلَاءِ شَأْنِهَا بِنَشْرِ الْعُلُومِ وَتَأْلِيفِ الْجَمْعِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ وَالْخَيْرِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ، إِذْ يُرَى كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ أَدْنَى طَبَقَاتِهَا عَزِيزًا بِهَا مُحْتَرَمًا بِاحْتِرَامِهَا مَكْفُولًا بِعِنَايَتِهَا كَأَنَّ أُمَّتَهُ وَدَوْلَتَهُ مُتَمَثِّلَتَانِ فِي شَخْصِهِ، وَلِيُقَابِلَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ وَبَيْنَ كُبَرَاءِ الْأُمَمِ الَّتِي ضَعُفَتْ وَذَلَّتْ بِإِهْمَالِ الْإِنْفَاقِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَإِعْلَاءِ شَأْنِ الْمِلَّةِ كَيْفَ
يَرَاهُمْ أَحْقَرَ فِي الْوُجُودِ مِنْ صَعَالِيكِ غَيْرِهِمْ، ثُمَّ لِيَرْجِعْ إِلَى نَفْسِهِ وَلِيَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَنَّ نَفَقَةَ كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ يَصِحُّ أَنْ تُعْتَبَرَ هِيَ الْمُسْعِدَةُ لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَجْمُوعَ النَّفَقَاتِ الَّتِي بِهَا تَقُومُ الْمَصَالِحُ تَتَكَوَّنُ مِمَّا يَبْذُلُهُ الْأَفْرَادُ، فَلَوْلَا الْجُزْئِيَّاتُ لَمْ تُوجَدِ الْكُلِّيَّاتُ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّاسَ يَقْتَدِي بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ وَالْفِطْرَةِ ; فَكُلُّ مَنْ بَذَلَ شَيْئًا فِي سَبِيلِ اللهِ كَانَ إِمَامًا وَقُدْوَةً


الصفحة التالية
Icon