وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا، كَثُرَ مَا يُصِيبُهَا مِنَ الْمَطَرِ أَوْ قَلَّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَرُهَا مُضَاعَفًا لَمْ يَكُنْ مَعْدُومًا فَإِذًا لَا يَكُونُ طَالِبُهُ قَطُّ مَحْرُومًا.
وَوَجْهُ الشَّبَهِ عِنْدِي: أَنَّ الْمُنْفِقَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَالتَّثْبِيتِ مِنْ نَفْسِهِ هُوَ فِي إِخْلَاصِهِ وَسَخَاءِ نَفْسِهِ وَإِخْلَاصِ قَلْبِهِ كَالْجَنَّةِ الْجَيِّدَةِ التُّرْبَةِ الْمُلْتَفَّةِ الشَّجَرِ الْعَظِيمَةِ الْخِصْبِ فِي كَثْرَةِ بِرِّهِ وَحُسْنِهِ، فَهُوَ يَجُودُ بِقَدْرِ سَعَتِهِ، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ أَغْدَقَ وَوَسُعَ فِي الْإِنْفَاقِ، وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ قَلِيلٌ أَنْفَقَ مِنْهُ بِقَدْرِهِ، فَخَيْرُهُ دَائِمٌ وَبِرُّهُ لَا يَنْقَطِعُ ; لِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ ذَاتِيٌّ لَا عَرَضِيٌّ كَأَهْلِ الرِّيَاءِ وَأَصْحَابِ الْمَنِّ وَالْإِيذَاءِ. هَذَا مَا سَبَقَ إِلَى فَهْمِي عِنْدَ الْكِتَابَةِ، فَالْوَابِلُ وَالطَّلُّ عَلَى هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ سَعَةِ الرِّزْقِ وَمَا دُونُ السَّعَةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى مَا كَتَبْتُ فِي مُذَكِّرَتِي عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فَإِذَا هُوَ قَدْ قَالَ فِي الدَّرْسِ: إِنَّ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ فِي الْإِنْفَاقِ كَالْوَابِلِ لِلْجَنَّةِ فِيهَا تَكُونُ النَّفَقَةُ نَافِعَةً لِلنَّاسِ ; لِأَنَّ أَصْحَابَهَا يَتَحَرَّوْنَ فَيَضَعُونَ نَفَقَتَهُمْ مَوْضِعَ الْحَاجَةِ لَا يُبَذِّرُونَ بِغَيْرِ رَوِيَّةٍ. ثُمَّ قَالَ عِنْدَ ذِكْرِ الطَّلِّ: أَيْ أَنَّ أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ الْمُخْلِصِينَ لَا يَخِيبُ قَاصِدُهُمْ ; لِأَنَّ رَحْمَةَ قُلُوبِهِمْ لَا يَغُورُ مَعِينُهَا فَإِنْ لَمْ تُصِبْهُ بِوَابِلٍ مِنْ عَطَائِهَا لَمْ يَفُتْهُ طَلُّهُ، فَهُمْ كَالْجَنَّةِ الَّتِي لَا يُخْشَى عَلَيْهَا الْيُبْسُ وَالزَّوَالُ، وَقَدْ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لِيُذَكِّرَنَا بِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْمُخْلِصُ مِنَ الْمُرَائِي تَحْذِيرًا لَنَا مِنَ الرِّيَاءِ الَّذِي يَتَوَهَّمُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ يَغُشُّ النَّاسَ بِإِظْهَارِهِ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ
اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ سَرِيرَتُكَ أَيُّهَا الْمُنْفِقُ فَعَلَيْكَ أَنْ تُخْلِصَ لَهُ.
وَأَمَّا الْمَثَلُ الثَّانِي فَقَوْلُهُ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ.
(الْمُفْرَدَاتُ) وَدَّ الشَّيْءَ: أَحَبَّهُ مَعَ تَمَنِّيهِ. وَالْأَعْنَابُ: جَمْعُ عِنَبٍ، وَهُوَ ثَمَرُ الْكَرْمِ الطَّرِيُّ، وَاحِدَتُهُ عِنَبَةٌ، وَالنَّخِيلُ: جَمْعُ نَخْلٍ، أَوِ اسْمُ جَمْعٍ، وَهُوَ شَجَرُ التَّمْرِ، يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَوَاحِدَتُهُ نَخْلَةٌ، وَالْقُرْآنُ يَذْكُرُ الْكَرْمَ بِثَمَرِهِ وَالنَّخْلَ بِشَجَرِهِ وَلَا بِثَمَرِهِ، وَقَالُوا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ: إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي النَّخِيلِ نَافِعٌ لِلنَّاسِ فِي ارْتِفَاقِهِمْ: وَرَقَهُ وَجُذُوعَهُ وَأَلْيَافَهُ وَعَثَاكِيلَهُ، فَمِنْهُ يَتَّخِذُونَ الْقُفَفَ وَالزَّنَابِيلَ وَالْحِبَالَ وَالْعُرُوشَ وَالسُّقُوفَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَالْإِعْصَارُ: رِيحٌ عَاصِفَةٌ تَسْتَدِيرُ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ تَنْعَكِسُ عَنْهَا إِلَى السَّمَاءِ حَامِلَةً لِلْغُبَارِ، فَتَكُونُ كَهَيْئَةِ الْعَمُودِ، جَمْعُهُ أَعَاصِرُ وَأَعَاصِيرُ. وَالْمُرَادُ بِالنَّارِ: السَّمُومُ الشَّدِيدُ، أَوِ الْبَرْدُ الشَّدِيدُ رِوَايَتَانِ عَنِ السَّلَفِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ بِأَسَانِيدِهِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّارَ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا يَحْرِقُ الشَّيْءَ وَلَوْ بِتَجْفِيفِ رُطُوبَتِهِ، وَالصَّرُّ: أَيِ الْبَرْدُ الشَّدِيدُ كَالْحَرِّ الشَّدِيدِ فِي ذَلِكَ، كِلَاهُمَا يَحْرِقُ الشَّجَرَ وَالنَّبَاتَ.


الصفحة التالية
Icon