قَرَأْنَا وَاطَّلَعْنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ الَّتِي هِيَ عُمْدَةُ الْمُقَلِّدِينَ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، فَلَمْ نَرَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا عُشْرَ مِعْشَارِ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبَيَانِ فَوَائِدِهِ وَمَنَافِعِهِ وَكَوْنِهِ مِنْ أَكْبَرِ آيَاتِ الْإِيمَانِ وَالتَّنْفِيرِ مِنَ الْإِمْسَاكِ وَالْبُخْلِ وَبَيَانِ كَوْنِهِ مِنْ آيَاتِ الْكُفْرِ، وَلَكِنَّهَا تُطِيلُ فِيمَا لَمْ يُعْنَ بِهِ كِتَابُ اللهِ مِنْ بَيَانِ النِّصَابِ فِي كُلِّ مَا تَجِبُ بِهِ الزَّكَاةُ وَالْحَوْلُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَسْتَقْصِي كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مَا يَنْفُذُ إِلَى الْقَلْبِ فَيَجْذِبُهُ إِلَى الرَّبِّ بَعْدَ أَنْ يُنْقِذَهُ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيَاطِينِ، وَيَزُجُّ بِهِ فِي وِجْدَانِ الدِّينِ، وَهَذَا مَا عَابَهُ الْإِمَامُ
الْغَزَالِيُّ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ الَّذِي سَمَّوْهُ فِقْهًا. وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ فِي شَيْءٍ، فَهَلْ يَصِحُّ مَعَ هَذَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَفِقْهِ حُكْمِهِ وَأَسْرَارِهِ؟ أَلَمْ تَرَ أَنَّ أَوْسَعَ النَّاسِ مَعْرِفَةً بِهِ هُمْ فِي الْغَالِبِ أَشَدُّهُمْ بُخْلًا وَحِرْصًا، حَتَّى لَا تَكَادَ تَرَى أَحَدًا مِنْهُمْ مُشْتَرِكًا فِي جَمْعِيَّةٍ خَيْرِيَّةٍ أَوْ مُنْفِقًا فِي مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ، بَلْ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَحْتَالُونَ وَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ الْحِيَلَ لِمَنْعِ الزَّكَاةِ الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَصِفُ الْجَمْعِيَّاتِ الْخَيْرِيَّةَ بِالْبِدْعَةِ وَيَلْمِزُ أَهْلَهَا فِي عَمَلِهِمْ، يَعْتَذِرُ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ مُسَاعَدَتِهِمْ إِلَّا تَمَسُّكًا بِالشَّرْعِ وَمُحَافَظَةً عَلَى أَحْكَامِهِ، فَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ: إِنْ صَحَّ مَا تَزْعُمُونَ فَلِمَ لَا تُنْشِئُونَ جَمْعِيَّاتٍ خَيْرِيَّةً لِخِدْمَةِ الْأُمَّةِ وَإِعْلَاءِ شَأْنِ الْمِلَّةِ؟ شَكَوْا مِنْ كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا لَأَسْرَعَ الْجَمَاهِيرُ إِلَى تَلْبِيَتِهِمْ ; لَأَنَّ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَزَالُ يَعْتَقِدُ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُحَافِظُونَ عَلَى الدِّينِ، أَفَرَأَيْتَ مَنْ لَا يَعْمَلُ الْخَيْرَ وَلَا يَأْمُرُ بِهِ، بَلْ يَصُدُّ عَنْهُ يَكُونُ قَدْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ الَّتِي قَالَ اللهُ فِيمَنْ أُوتِيهَا إِنَّهُ: أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا أَوْ يَكُونُ قَدْ أَوُتِيَ فِقْهَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ مَا فُسِّرَتْ بِهِ الْحِكْمَةُ؟ لَا نَعْنِي بِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عِلْمَ الْأَحْكَامِ الْمَعْرُوفَ بِالْفِقْهِ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ بِالْمَرَّةِ، وَإِنَّمَا نَعْنِي أَنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ حَتَّى فِي الْأَحْكَامِ.
ثُمَّ أَقُولُ إِيضَاحًا لِلْمَقَامِ: إِنَّ اللهَ جَعَلَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ مَعَ الْحِكْمَةِ فِي قَرْنٍ، فَهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ كَمَا لَا يَفْتَرِقُ الْمَعْلُولُ عَنْ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ، فَالْحِكْمَةُ: هِيَ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ الْمُحَرِّكُ لِلْإِرَادَةِ إِلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ الَّذِي هُوَ الْخَيْرُ. وَآلَةُ الْحِكْمَةِ هِيَ الْعَقْلُ السَّلِيمُ الْمُسْتَقِلُّ بِالْحُكْمِ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ، فَهُوَ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالدَّلِيلِ، فَمَتَّى حَكَمَ جَزَمَ فَأَمْضَى وَأَبْرَمَ، فَكُلُّ حَكِيمٍ عَلِيمٍ عَامِلٍ مَصْدَرٌ لِلْخَيْرِ الْكَثِيرِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ أَيْ وَقَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ لَا يَتَّعِظُ بِالْعِلْمِ وَيَتَأَثَّرُ بِهِ تَأَثُّرًا يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ إِلَّا أَصْحَابُ الْعُقُولِ الْخَالِصَةِ مِنَ الشَّوَائِبِ، وَالْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ مِنَ الْمَعَايِبِ، وَهُوَ تَذْيِيلٌ يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ، فَنَسْأَلُهُ - تَعَالَى - أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ الْمُؤَيَّدِينَ بِالْحِكْمَةِ وَفَصْلِ الْخِطَابِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:


الصفحة التالية
Icon