وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ: " مِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ إِخْفَاءَ كُلِّ أَعْمَالِ الْخَيْرِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهَا، وَأَنَّهُ خَيْرٌ لِلْإِنْسَانِ أَنَّ يَكُونَ مَخْمُولًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالْخَيْرِ مُقْتَدًى بِهِ، فَأَيْنَ مِنْ هَذَا الظَّنِّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [٢٨: ٥] وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [٣٢: ٢٤] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ فِي بَيَانِ دُعَاءِ عِبَادِهِ: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [٢٥: ٧٤] فَهَلْ يَكُونُ الْإِمَامُ الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ فِي الْخَيْرِ مَخْمُولًا مَجْهُولًا؟.
(الْمَبْحَثُ الثَّانِي) : إِنْ أَطْلَقَ فِي الْآيَةِ لَفْظَ الْفُقَرَاءِ، وَلَمْ يَقُلْ فُقَرَاءَكُمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تُسْتَحَبُّ عَلَى كُلِّ فَقِيرٍ - وَإِنْ كَانَ كَافِرًا - فَكَمَا وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ الْكَافِرَ فَلَمْ يَحْرِمْهُ لِكُفْرِهِ مِنَ الرِّزْقِ بِسَعْيِهِ، كَذَلِكَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةَ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنِ الْكَسْبِ الَّذِي يَكْفِيهِ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ. أَوْرَدَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وَحَكَاهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، وَالْفُقَهَاءُ لَمْ يَمْنَعُوا صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ عَنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِ. وَإِنَّمَا قَالُوا: إِنَّ الزَّكَاةَ الَّتِي هِيَ إِحْدَى أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ خَاصَّةٌ بِالْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ زَكَاةُ الْفِطْرِ، وَلَمْ يَمْنَعُوا صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ عَنْ مُسْلِمٍ
وَلَا كَافِرٍ، وَلَا بَرٍّ وَلَا فَاجِرٍ، بَلْ قَالُوا: إِذَا اضْطُرَّ الذِّمِّيُّ أَوِ الْمُعَاهِدُ إِلَى الْقُوتِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سَدُّ رَمَقِهِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ سَدُّ رَمَقِ الْمُسْلِمِ الْمُضْطَرِّ إِلَّا مَنْ أَهْدَرَ الشَّرْعُ دَمَهُ، وَعُمُومُ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ كَتَبَ الرَّحْمَةَ وَالْإِحْسَانَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِهِمَا: فِي كُلِّ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ يَعْنِي فِي جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ.
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ.


الصفحة التالية
Icon