وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْعَمَلِ فَلَا يُعْطَوْنَ إِذْ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي هَذَا الْمَالِ كَمَا عُلِمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ رَأَى عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - سَائِلًا يَحْمِلُ جِرَابًا فَأَمَرَ أَنْ يُنْظَرَ مَا فِيهِ فَإِذَا هُوَ خُبْزٌ، فَأَمَرَ بِأَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ وَيُلْقَى إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ بَيَانِ النَّاسِ بِالصَّدَقَةِ: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حُسْنُ النِّيَّةِ فِيهِ وَتَحَرِّي النَّفْعِ بِهِ وَوَضْعِهِ فِي مَوْضِعِهِ وَإِيتَائِهِ أَحَقَّ النَّاسِ فَأَحَقَّهُمْ بِهِ، فَهُوَ يُجَازِي عَلَيْهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، فَالْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ مُرَغِّبٌ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سِيقَتِ الْهِدَايَةُ إِلَيْهِ.
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
كُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي الْإِنْفَاقِ كَانَ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ وَبَيَانِ فَوَائِدِهَا فِي أَنْفُسِ الْمُنْفِقِينَ وَفِي الْمُنْفَقِ عَلَيْهِمْ، وَفِي الْأُمَّةِ الَّتِي يَكْفُلُ أَقْوِيَاؤُهَا ضُعَفَاءَهَا، وَأَغْنِيَاؤُهَا فُقَرَاءَهَا، وَيَقُومُ فِيهَا الْقَادِرُونَ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَفِي آدَابِ النَّفَقَةِ، وَفِي الْمُسْتَحِقِّ لَهَا وَأَحَقِّ النَّاسِ بِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ. فَقَدْ ذَكَرَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَفِيهِ بَيَانُ عُمُومِ الْأَوْقَاتِ مَعَ عُمُومِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْإِظْهَارِ وَالْإِخْفَاءِ، وَفِي تَقْدِيمِ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ وَالسِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ إِيذَانٌ بِتَفْضِيلِ صَدَقَةِ السِّرِّ، وَلَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةَ يَقْتَضِي أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَوْضِعًا
تَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَتُفَضِّلُهُ الْمَصْلَحَةُ لَا يَحِلُّ غَيْرُهُ مَحَلَّهُ، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ كُلٍّ فِي تَفْسِيرِ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ [٢: ٢٧١] وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَكُلِّ حَالٍ لَا يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ مَهْمَا لَاحَ لَهُمْ طَرِيقٌ لِلْإِنْفَاقِ هُمُ الَّذِينَ بَلَغُوا نِهَايَةَ الْكَمَالِ فِي الْجُودِ وَالسَّخَاءِ وَطَلَبِ مَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ - عَلَيْهِ الرِّضْوَانُ - إِذْ أَنْفَقَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. قِيلَ: اتَّفَقَ أَنْ كَانَ عَشَرَةٌ مِنْهَا بِاللَّيْلِ، وَعَشَرَةٌ بِالنَّهَارِ، وَعَشَرَةٌ بِالسِّرِّ، وَعَشَرَةٌ بِالْعَلَانِيَةِ، وَنَقَلَ الْأَلُوسِيُّ عَنِ السُّيُوطِيِّ أَنَّ خَبَرَ تَصَدُّقِهِ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّازِقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمَا بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - كَانَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ فَأَنْفَقَ بِاللَّيْلِ دِرْهَمًا، وَبِالنَّهَارِ دِرْهَمًا، وَسِرًّا دِرْهَمًا، وَعَلَانِيَةً دِرْهَمًا. وَفِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: حَمَلَنِي أَنْ أَسْتَوْجِبَ عَلَى اللهِ الَّذِي وَعَدَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا إِنَّ ذَلِكَ لَكَ وَالْعِبَارَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَنْفَقَ ذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي


الصفحة التالية
Icon