عَزَّ وَجَلَّ -: لَيْسَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ وَجْهِ الْبَيْعِ نَظِيرَ الزِّيَادَةِ مِنْ وَجْهِ الرِّبَا ; لِأَنِّي أَحْلَلْتُ الْبَيْعَ وَحَرَّمْتُ الرِّبَا، وَالْأَمْرُ أَمْرِي، وَالْخَلْقُ خَلْقِي، أَقْضِي فِيهِمْ مَا أَشَاءُ، وَأَسْتَعْبِدُهُمْ بِمَا أُرِيدُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَعْتَرِضَ فِي حُكْمِي ". اهـ.
أَقُولُ: أَمَّا مَا قَالَهُ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الزِّيَادَتَيْنِ فَهُوَ الصَّوَابُ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي مَعْنَى الرِّبَا هُوَ الَّذِي كَانَ مَعْهُودًا عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ رِبَا النَّسِيئَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَأَمَّا قَوْلُهُ:
إِنَّهُمْ كَانَ يُقَالُ لَهُمْ: هَذَا رِبًا مُحَرَّمٌ، وَكَانُوا يُجِيبُونَ بِمَا حَكَى الله عَنْهُمْ فَلَيْسَتِ الْآيَةُ نَصًّا فِيهِ، إِذِ الْحِكَايَةُ عَنِ الْأَحْوَالِ بِالْأَقْوَالِ مِنَ الْأَسَالِيبِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَيَتَوَقَّفُ جَعْلُ الْقَوْلِ عَلَى حَقِيقَتِهِ عَلَى إِثْبَاتِ اعْتِقَادِ الْعَرَبِ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا، أَوْ عَلَى جَعْلِ الْآيَةِ خَاصَّةً بِالْيَهُودِ ; فَإِنَّ الرِّبَا مُحَرَّمٌ فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَهُمْ أَشَدُّ الْخَلْقِ مُرَابَاةً وَكَانُوا يَسْتَحِلُّونَ أَكْلَ أَمْوَالِ الْعَرَبِ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَاطِلِ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [٣: ٧٥] وَإِنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْنَا أَكْلُ أَمْوَالِ إِخْوَتِنَا الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ، بَلِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي وَقَائِعَ لِغَيْرِهِمْ - كَمَا سَيَأْتِي - ثُمَّ إِنَّ مَا عَلَّلَ بِهِ كَوْنَ إِحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ لَيْسَتْ كَالْأُخْرَى وَهُوَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَهَا، يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهَا لَيْسَتْ مِثْلَهَا فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسُ الْأَمْرِ كَمَا بَيَّنَ هُوَ، وَلَا فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَمَا سَنُبَيِّنُ ; وَلِذَلِكَ حَرَّمَهَا اللهُ - تَعَالَى -، فَمَا حَرَّمَ اللهُ - تَعَالَى - شَيْئًا إِلَّا لِأَنَّهُ ضَارٌّ فِي نَفْسِهِ، وَلَا أَحَلَّ شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ نَافِعٌ فِي نَفْسِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى الْوَعْظِ، وَكَوْنِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مَقْرُونَةً بِالْمَوَاعِظِ فِي تَفْسِيرِ (آيَةِ ٢٣٢) أَيْ فَمَنْ بَلَغَهُ تَحْرِيمُ اللهِ - تَعَالَى - لِلرِّبَا وَنَهْيُهُ عَنْهُ فَتَرَكَ الرِّبَا فَوْرًا بِلَا تَرَاخٍ وَلَا تَرَدُّدٍ، انْتِهَاءً
عَمَّا نَهَى الله عَنْهُ فَلَهُ مَا كَانَ أَخَذَهُ فِيمَا سَلَفَ مِنَ الرِّبَا لَا يُكَلَّفُ رَدَّهُ إِلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُمْ، بَلْ يَكْتَفِي مِنْهُ بِأَلَّا يُضَاعِفَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبَلَاغِ شَيْئًا وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ يَحْكُمُ فِيهِ بِعَدْلِهِ، وَمِنَ الْعَدْلِ أَلَّا يُؤَاخَذَ بِمَا أَكَلَ مِنَ الرِّبَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَبُلُوغِهِ الْمَوْعِظَةُ مِنْ رَبِّهِ، وَلَكِنَّ الْعِبَارَةَ تُشْعِرُ بِأَنَّ إِبَاحَةَ أَكْلِ مَا سَلَفَ رُخْصَةٌ لِلضَّرُورَةِ، وَتَوْمِئُ إِلَى أَنَّ رَدَّ مَا أَخَذَ مِنْ قَبْلِ النَّهْيِ إِلَى أَرْبَابِهِ الَّذِينَ أَخَذَ مِنْهُمْ مِنْ أَفْضَلِ الْعَزَائِمِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ إِبَاحَةِ مَا سَلَفَ بِاللَّامِ، وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ كَفَّارَةِ صَيْدِ الْمُحْرِمِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ [٥: ٩٥] وَأَنَّهُ عَقَّبَ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ بِإِبْهَامِ الْجَزَاءِ وَجَعَلَهُ إِلَى اللهِ، وَالْمَعْهُودُ فِي أُسْلُوبِهِ أَنْ يَصِلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ آيَةِ مُحَرَّمَاتِ النِّسَاءِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [٤: ٢٣] أَبَاحَ أَكْلَ مَا سَلَفَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَأَبْهَمَ جَزَاءَ آكِلِهِ، لَعَلَّهُ يَغَصُّ بِأَكْلِ مَا فِي يَدِهِ مِنْهُ فَيَرُدُّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَلَكِنَّهُ صَرَّحَ بِأَشَدِّ الْوَعِيدِ عَلَى مَنْ أَكَلَ شَيْئًا بَعْدَ النَّهْيِ فَقَالَ: وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أَيْ وَمَنْ عَادَ إِلَى مَا كَانَ يَأْكُلُ مِنَ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ بَعْدَ


الصفحة التالية
Icon