قَامَ كَثِيرٌ مِنْ فَلَاسِفَتِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ يَكْتُبُونَ الرَّسَائِلَ وَالْأَسْفَارَ فِي تَلَافِي شَرِّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لَا عِلَاجَ لِهَذَا الدَّاءِ إِلَّا رُجُوعُ النَّاسِ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الدِّينُ، وَقَدْ أَلَّفَ تُولِسْتُويِ الْفَيْلَسُوفُ الرُّوسِيُّ كِتَابًا سَمَّاهُ (مَا الْعَمَلُ؟) وَفِيهِ أُمُورٌ يَضْطَرِبُ لِفَظَاعَتِهَا الْقَارِئُ، وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِهِ: إِنَّ أُورُبَّا نَجَحَتْ فِي تَحْرِيرِ النَّاسِ مِنَ الرِّقِّ وَلَكِنَّهَا غَفَلَتْ عَنْ رَفْعِ نَيْرِ الدِّينَارِ (الْجُنَيْهِ) عَنْ أَعْنَاقِ النَّاسِ الَّذِينَ رُبَّمَا اسْتَعْبَدَهُمُ الْمَالُ يَوْمًا مَا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ رَحِمَهُ اللهُ - تَعَالَى -: وَهَذِهِ بِلَادُنَا قَدْ ضَعُفَ فِيهَا التَّعَاطُفُ وَالتَّرَاحُمُ وَقَلَّ
الْإِسْعَادُ وَالتَّعَاوُنُ مُذْ فَشَا فِيهَا الرِّبَا، وَإِنَّنِي لَأَعِي وَأُدْرِكُ مَا مَرَّ بِي مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، كُنْتُ أَرَى رَجُلًا يَطْلُبُ مِنَ الْآخَرِ قَرْضًا فَيَأْخُذُهُ صَاحِبُ الْمَالِ إِلَى بَيْتِهِ وَيُوصِدُ الْبَابَ عَلَيْهِ مَعَهُ، وَيُعْطِيهِ مَا طَلَبَ بَعْدَ أَنْ يَسْتَوْثِقَ مِنْهُ بِالْيَمِينِ أَنَّهُ لَا يُحَدِّثُ النَّاسَ بِأَنَّهُ اقْتَرَضَ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ يَسْتَحِي أَنْ يَكُونَ فِي نَظَرِهِمْ مُتَفَضِّلًا عَلَيْهِ (قَالَ) : رَأَيْتُ هَذَا مِنْ كَثِيرِينَ فِي بِلَادٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَرَأَيْتُ مِنْ وَفَاءِ مَنْ يَقْتَرِضُ أَنَّهُ يُغْنِي الْمُقْرِضَ عَنِ الْمُطَالَبَةِ، بَلِ الْمُحَاكَمَةِ. ثُمَّ بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً رَأَيْتُ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمُحْسِنِينَ لَا يُعْطِي وَلَدَهُ قَرْضًا طَلَبَهُ إِلَّا بِسَنَدٍ وَشُهُودٍ. فَسَأَلَتْهُ: أَمَا أَنْتَ الَّذِي كُنْتَ تُعْطِي الْغُرَبَاءَ مَا يَطْلُبُونَ وَالْبَابُ مُقْفَلٌ، وَتُقْسِمُ عَلَيْهِمْ أَوْ تُحَلِّفُهُمْ أَلَّا يَذْكُرُوا ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا بَالُكَ تَسْتَوْثِقُ مِنْ وَلَدِكَ وَلَا تَأْمَنُهُ عَلَى مَالِكَ إِلَّا بِسَنَدٍ وَشُهُودٍ وَمَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ؟ قَالَ: لَا أَعْرِفُ سَبَبَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّنِي لَا أَجِدُ الثِّقَةَ الَّتِي كُنْتُ أَعْرِفُهَا فِي نَفْسِي. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْبَرَنِي أَنَّ هَذَا الَّذِي سَأَلَ مِنْهُ عَنْ ذَلِكَ هُوَ وَالِدُهُ - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -. هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَمَا قَالَهُ فِي مَضَرَّةِ اسْتِغْلَالِ النَّقْدِ - مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامٍ لِلْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ وَمُطَبَّقٌ عَلَى حَالِ الْعَصْرِ. وَإِنَّنِي أُورِدُ عِبَارَةَ الْغَزَالِيِّ فِيهِ مِنْ كِتَابِ الشُّكْرِ مِنَ (الْإِحْيَاءِ) لِمَا فِيهَا مِنَ الْحُسْنِ وَالْفَوَائِدِ، قَالَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -:
" مِنْ نِعَمِ اللهِ - تَعَالَى - خَلْقُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَبِهِمَا قِوَامُ الدُّنْيَا، وَهُمَا حَجَرَانِ لَا مَنْفَعَةَ فِي أَعْيَانِهِمَا. وَلَكِنْ يَضْطَرُّ الْخَلْقُ إِلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مُحْتَاجٌ إِلَى أَعْيَانٍ كَثِيرَةٍ فِي مَطْعَمِهِ وَمَلْبَسِهِ وَسَائِرِ حَاجَاتِهِ، وَقَدْ يَعْجَزُ عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَيَمْلِكُ مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، كَمَنْ يَمْلِكُ الزَّعْفَرَانَ مَثَلًا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى جَمَلٍ يَرْكَبُهُ وَمَنْ يَمْلِكُ الْجَمَلَ رُبَّمَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ وَيَحْتَاجُ إِلَى الزَّعْفَرَانِ، فَلَا بُدَّ بَيْنَهُمَا مِنْ مُعَاوَضَةٍ، وَلَا بُدَّ فِي مِقْدَارِ الْعِوَضِ مِنْ تَقْدِيرٍ، إِذْ لَا يَبْذُلُ صَاحِبُ الْجَمَلِ جَمَلَهُ بِكُلِّ مِقْدَارٍ مِنَ الزَّعْفَرَانِ، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الزَّعْفَرَانِ وَالْجَمَلِ حَتَّى يُقَالَ: يُعْطَى مِنْهُ مِثْلَهُ فِي الْوَزْنِ أَوِ الصُّورَةِ، وَكَذَا مَنْ يَشْتَرِي دَارًا بِثِيَابٍ أَوْ عَبْدًا بِخُفٍّ أَوْ دَقِيقًا بِحِمَارٍ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَنَاسُبَ فِيهَا، فَلَا يُدْرَى أَنَّ الْجَمَلَ كَمْ يُسَاوِي بِالزَّعْفَرَانِ فَتَتَعَذَّرُ الْمُعَامَلَاتُ جِدًّا. فَافْتَقَرَتْ هَذِهِ الْأَعْيَانُ الْمُتَنَافِرَةُ إِلَى مُتَوَسِّطٍ بَيْنَهُمَا يَحْكُمُ فِيهَا بِحُكْمٍ عَدْلٍ فَيَعْرِفُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ رُتْبَتَهُ
وَمَنْزِلَتَهُ حَتَّى إِذَا تَقَرَّرَتِ الْمَنَازِلُ وَتَرَتَّبَتِ الرُّتَبُ،


الصفحة التالية
Icon