وَقَدْ فَشَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَكْلُ الرِّبَا مَعَ ذَلِكَ الْوَعِيدِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَأَكْثَرُهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَفْظَ الرِّبَا فِيهِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا قَالَ فُقَهَاءُ مَذَاهِبِهِمْ أَنَّهُ مِنْهُ حَتَّى بَيْعَ الْحُلِيِّ مِنَ الذَّهَبِ بِجُنَيْهَاتٍ يَزِيدُ وَزْنُهَا عَلَى وَزْنِهِ لِمَكَانِ الصَّنْعَةِ فِي الْحُلِيِّ. وَبَعْضُ الْعُقُودِ الَّتِي يَعُدُّهَا الْفُقَهَاءُ فَاسِدَةً أَوْ بَاطِلَةً، وَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي عَشَرَاتِ الْأُلُوفِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ وَاحِدٌ يَتَحَامَى كُلَّ مَا عَدَّهُ الْفُقَهَاءُ مِنَ الرِّبَا، وَلَعَلَّهُ يَنْدُرُ فِي الْفُقَهَاءِ أَنْفُسِهِمْ مَنْ يُطَبِّقُ شِرَاءَ الْحُلِيِّ لِلنِّسَاءِ عَلَى قَوَاعِدِ الْفِقْهِ، كَأَنْ يَشْتَرِي مَا كَانَ مِنَ الذَّهَبِ بِفَضَّةٍ، وَمَا كَانَ مِنَ الْفِضَّةِ بِذَهَبٍ يَدًا بِيَدٍ فِيهِمَا، أَوْ يَتَّخِذُ لِذَلِكَ حِيلَةً فِقْهِيَّةً فَالنَّاسُ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الرِّبَا الْقَطْعِيِّ الْمُتَوَعَّدِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ الْخُلُودُ فِي النَّارِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ أَوْ كَانَ وَعِيدُهُ دُونَ وَعِيدِهِ ; لِأَنَّ ضَرَرَهُ دُونَ ضَرَرِهِ وَإِلَيْكَ الْبَيَانُ:
قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَقَائِعَ كَانَتْ لِلْمُرَابِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَالْمُرَادُ بِالرِّبَا فِيهَا مَا كَانَ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ، أَيْ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمَالِ لِأَجْلِ الْإِنْسَاءِ، أَيِ التَّأْخِيرِ فِي أَجَلِ الدِّينِ. فَكَانَ يَكُونُ لِلرَّجُلِ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ يَخْتَلِفُ سَبَبُهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا اشْتَرَاهُ مِنْهُ
أَوْ قَرْضًا اقْتَرَضَهُ، فَإِذَا جَاءَ الْأَجَلُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَدِينِ مَالٌ يَفِي بِهِ؛ طَلَبَ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ يُنْسِئَ لَهُ فِي الْأَجَلِ وَيَزِيدَ فِي الْمَالِ، وَكَانَ يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، فَهَذَا مَا وَرَدَ الْقُرْآنُ بِتَحْرِيمِهِ لَمْ يُحَرَّمْ فِيهِ سِوَاهُ، وَقَدْ وَصَفَهُ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ الَّتِي جَاءَتْ دُونَ غَيْرِهَا بِصِيغَةِ النَّهْيِ وَهِيَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [٣: ١٣٠] وَهَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فَهُوَ تَحْرِيمٌ لِرِبًا مَخْصُوصٍ بِهَذَا الْقَيْدِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ.
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا الْآيَاتِ، يُحْمَلُ الرِّبَا فِيهَا عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي النَّهْيِ الْأَوَّلِ عَمَلًا بِقَاعِدَةِ إِعَادَةِ الْمَعْرِفَةِ وَوِفَاقًا لِقَاعِدَةِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيَدْعَمُ ذَلِكَ مُقَابَلَتُهُ بِالصَّدَقَةِ حَيْثُ ذُكِرَ وَتَسْمِيَتُهُ ظُلْمًا، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ - وَهُوَ إِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَعْلَمُهُمْ بِالرِّوَايَةِ - رِوَايَاتٍ كَثِيرَةً فِي ذَلِكَ أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الرِّبَا هُوَ أَشَدُّهُمْ ضَرَرًا وَهُوَ مَذْمُومٌ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ، بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ فِي قَوَانِينِ الْأُمَمِ الَّتِي تُبِيحُ غَيْرَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ) الرِّبَا نَوْعَانِ: جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ، فَالْجَلِيُّ حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَالْخَفِيُّ حُرِّمَ، لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الْجَلِيِّ، فَتَحْرِيمُ الْأَوَّلِ قَصْدًا وَتَحْرِيمُ الثَّانِي وَسِيلَةٌ، فَأَمَّا الْجَلِيُّ فَرِبَا النَّسِيئَةِ وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. مِثْلَ أَنْ يُؤَخِّرَ دِينَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَالِ. وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَ فِي الْمَالِ حَتَّى تَصِيرَ الْمِائَةُ عِنْدَهُ آلَافًا مُؤَلَّفَةً، وَفِي الْغَالِبِ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مُعْدَمٌ مُحْتَاجٌ، فَإِذَا رَأَى الْمُسْتَحِقَّ يُؤَخِّرُ مُطَالَبَتَهُ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ بِزِيَادَةٍ يَبْذُلُهَا لَهُ،


الصفحة التالية
Icon