وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الرِّبَا الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ - كَمَا قَالَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ - شِرَاءُ أَسْوِرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ بِجُنَيْهَاتٍ تَزِيدُ عَلَيْهَا وَزْنًا، لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي مُقَابَلَةِ صَنْعَةِ الصَّانِعِ وَقَدْ تَكُونُ قِيمَةُ الصَّنْعَةِ أَعْظَمَ مِنْ قِيمَةِ مَادَّةِ الْمَصْنُوعِ. فَإِنَّهُ لَا نَسِيئَةَ فِي هَذَا الْبَيْعِ، بَلْ وَلَا رِبًا لَا مُقَابِلَ لَهُ لِيَكُونَ بَاطِلًا، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَا ظُلْمَ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا مَنْ يُعْطِي آخَرَ مَالًا يَسْتَغِلُّهُ وَيَجْعَلُ لَهُ مِنْ كَسْبِهِ حَظًّا مُعَيَّنًا ; لِأَنَّ مُخَالَفَةَ قَوَاعِدِ الْفُقَهَاءِ فِي جَعْلِ الْحَظِّ مُعَيَّنًا - قَلَّ الرِّبْحُ أَوْ كَثُرَ - لَا يُدْخِلُ ذَلِكَ فِي الرِّبَا الْجَلِيِّ الْمُرَكَّبِ الْمُخَرِّبِ لِلْبُيُوتِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ نَافِعَةٌ لِلْعَامِلِ وَلِصَاحِبِ الْمَالِ مَعًا، وَذَلِكَ الرِّبَا ضَارٌّ بِوَاحِدٍ بِلَا ذَنْبٍ غَيْرَ الِاضْطِرَارِ، وَنَافِعٌ لِآخَرَ بِلَا عَمَلٍ سِوَى الْقَسْوَةِ وَالطَّمَعِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمَا فِي عَدْلِ اللهِ وَاحِدًا، بَلْ لَا يَقُولُ عَادِلٌ وَلَا عَاقِلٌ مِنَ الْبَشَرِ: إِنَّ النَّافِعَ يُقَاسُ عَلَى الضَّارِّ وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا. إِنْ كَانَ شِرَاءُ ذَلِكَ الْحُلِيِّ وَهَذَا التَّعَامُلُ مِنَ الرِّبَا الْخَفِيِّ الَّذِي يُمْكِنُ إِدْخَالُهُ فِي عُمُومِ رِوَايَاتِ الْآحَادِ فِي بَيْعِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ مُحَرَّمٌ لِسَدِّ الذَّرَائِعِ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ لَا لِذَاتِهِ، وَهُوَ مِنَ الرِّبَا الْمَشْكُوكِ فِيهِ لَا مِنَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُكَفِّرَ مُنْكِرَ حُرْمَتِهِ وَنَحْكُمَ بِفَسْخِ نِكَاحِهِ وَنُحَرِّمَ دَفْنَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِيَتَأَمَّلِ الَّذِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ فِي الْقُرْآنِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِقْدَارَ الْحَرَجِ إِذَا حَكَمُوا بِأَنَّ كُلَّ مَنِ اشْتَرَى حِلْيَةً مِنَ الذَّهَبِ بِنَقْدٍ مِنْهُ وَحِلْيَةً مِنَ الْفِضَّةِ بِنَقْدٍ مِنْهَا، وَكَانَ النَّقْدُ غَيْرَ مُسَاوٍ لِلْحُلِيِّ فِي الْوَزْنِ أَوْ أَجْمَلَ شَيْئًا مِنْ ثَمَنِهِ فَهُوَ كَافِرٌ إِنِ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ، وَمُرْتَكِبٌ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ مُحَارِبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ إِنْ كَانَ فَعَلَهُ مَعَ اعْتِقَادِ حُرْمَتِهِ.
وَلَوْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الْمَنْصُوصِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ لَمَا وَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ وَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الرِّبَا. وَمِنْ ذَلِكَ بَيْعُ الْحِلْيَةِ فَقَدْ أَوْضَحَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْحُجَّةَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا بِجِنْسِهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْوَزْنِ. وَمِمَّا قَالَ فِي ذَلِكَ: إِنَّ رِبَا الْفَضْلِ إِنَّمَا حَرَّمَهُ اللهُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ لَا لِذَاتِهِ وَمَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ أُبِيحَ لِلْمَصْلَحَةِ (رَاجِعْ ص ٢٠٣ مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ).
وَمِمَّنْ جَوَّزُوا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ رِبَا الْفَضْلِ مُطْلَقًا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَلَكِنْ رَوَوْا
عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَاخْتُلِفَ فِي رُجُوعِهِ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ الْمُتَقَدِّمِ إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ فَلَوْ كَانَ رِبَا الْفَضْلِ كَرِبَا النَّسِيئَةِ لَمْ يَقَعْ هَذَا الْخِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ.
وَالْغَرَضُ مِمَّا تَقَدَّمَ كُلِّهِ أَنْ نَفْهَمَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مَا حَرَّمَ الْقُرْآنُ مِنَ الرِّبَا وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِأَشَدِّ الْوَعِيدِ وَأَنْ نَفْهَمَ حِكْمَتَهُ وَانْطِبَاقَهُ عَلَى مَصْلَحَةِ الْبَشَرِ وَمُوَافَقَتَهُ لِرَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِمْ،


الصفحة التالية
Icon