يَلُوذُ بِالْأَغْنِيَاءِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مُرَاءٍ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُخْدَعَ، فَيُقَالُ لَكَ: نَرُدُّ مَظْلَمَةً، نَدْفَعُ عَنْ مَظْلُومٍ، فَإِنَّ هَذِهِ خُدْعَةٌ إِبْلِيسُ اتَّخَذَهَا لِلْقُرَّاءِ سُلَّمًا.
أَقُولُ: يَعْنُونَ بِالْقُرَّاءِ عُلَمَاءَ الدِّينِ، يَعْنِي أَنَّ الشَّيْطَانَ يُلَبِّسُ عَلَى رِجَالِ الدِّينِ مَا يَلْبِسُونَ فَيَقُولُ لَهُمْ وَيَقُولُونَ: إِنَّنَا لَا نُرِيدُ بِغِشْيَانِ الْأُمَرَاءِ وَالتَّرَدُّدِ عَلَيْهِمْ إِلَّا نَفْعَ النَّاسِ، وَدَفْعَ الْمَظَالِمِ عَنْهُمْ، وَهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُونَ الْمَالَ وَالْجَاهَ بِدِينِهِمْ، وَيَقِلُّ الصَّادِقُ فِيهِمْ. وَهَكَذَا أَضَاعُوا دِينَهُمْ فَنَبَذُوا كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا.
وَقَدْ نَظَمَ كَثِيرُونَ مِنْ نَاظِمِي الْحِكَمِ بَعْضَ هَذِهِ الْمَعَانِي. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا نُظِمَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ:
قُلْ لِلْأَمِيرِ مَقَالَةً | لَا تَرْكَنَنَّ إِلَى فَقِيهِ |
إِنَّ الْفَقِيهَ إِذَا أَتَى | أَبْوَابَكُمْ لَا خَيْرَ فِيهِ |
ثُمَّ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ
يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَوَى الشَّيْخَانِ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ: اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بِمَا أَتَى وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا لِنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ وَهَذِهِ! إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا قَدْ أَرَوْهُ أَنَّهُمْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ، وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: " أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا قَدِمَ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، " وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَا عِنْدَ مَرْوَانَ فَقَالَ مَرْوَانُ: يَا رَافِعُ، فِي أَيِّ شَيْءٍ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا؟ قَالَ رَافِعٌ: " أُنْزِلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَذَرُوا، وَقَالُوا: مَا حَبَسَنَا عَنْكُمْ إِلَّا شُغْلٌ، فَلَوَدِدْنَا لَوْ كُنَّا مَعَكُمْ