مِنْ ضِدِّهِ، وَهُوَ عَدَمُ الْإِقْسَاطِ فِيهِنَّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُخَافَ كَمَا يُخَافُ عَدَمُ الْإِقْسَاطِ فِي الْيَتَامَى ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَفْسَدَةٌ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ تُغْضِبُ اللهَ، وَتُوجِبُ سَخَطَهُ، وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا وَقَدْ بَيَّنَّاهُ بِأَوْضَحَ مِمَّا بَيَّنَهُ هُوَ بِهِ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ يَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْعَدْلِ فِي النِّسَاءِ، وَتَقْلِيلُ الْعَدَدِ الَّذِي يُنْكَحُ مِنْهُنَّ مَعَ الثِّقَةِ بِالْعَدْلِ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَلِيقُ بِالْمَسْأَلَةِ فِي ذَاتِهَا ; لِأَنَّهَا مِنْ أَهَمِّ الْمَسَائِلِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ الَّتِي سُمِّيَتْ سُورَةَ النِّسَاءِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَالَتْهُ عَائِشَةُ - وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ - فَمَسْأَلَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ جَاءَتْ بِالتَّبَعِ لَا بِالْأَصَالَةِ. وَكَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ الْمُرَادَ مَنْعُهُمْ مِنَ التَّعَدُّدِ الَّذِي يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى لِيُنْفِقُوا عَلَى أَزْوَاجِهِمُ الْكَثِيرَاتِ، وَهَذَا أَضْعَفُ الْوُجُوهِ، وَإِنْ قَالَ الرَّازِيُّ إِنَّهُ أَقْرَبُهَا.
وَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْآيَةِ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْمَعَانِي مِنْ قَبِيلِ رَأْيِ الشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي كُلِّ مَا يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ مِنْ مَعَانِيهِ، وَاسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا، وَالَّذِي يُقَرِّرُهُ كَاتِبُ هَذَا الْكَلَامِ فِي دُرُوسِ التَّفْسِيرِ
دَائِمًا هُوَ أَنْ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهُ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُفْرَدَاتِ، وَالْجُمَلِ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مُرْشِدَةً إِلَى إِبْطَالِ كُلِّ تِلْكَ الضَّلَالَاتِ وَالْمَظَالِمِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا الْجَاهِلِيَّةُ فِي أَمْرِ الْيَتَامَى، وَأَمْرِ النِّسَاءِ مِنَ التَّزَوُّجِ بِالْيَتَامَى بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَالتَّزَوُّجِ بِهِنَّ طَمَعًا فِي أَمْوَالِهِنَّ يَأْكُلُهَا الرَّجُلُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمِنْ عَضْلِهِنَّ لِيَبْقَى الْوَلِيُّ مُتَمَتِّعًا بِمَا لَهُنَّ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ الزَّوْجُ، وَمَنْ ظَلَمَ النِّسَاءَ بِتَزَوُّجِ الْكَثِيرَاتِ مِنْهُنَّ مَعَ عَدَمِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، فَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ هَذَا كُلَّهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَهِمَهُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَاتِ هُنَا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جَاءَ ذِكْرُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْيَتَامَى، وَالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِنَّ، وَلَوْ بِوَاسِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، فَقَالَ: إِنْ أَحْسَسْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمُ الْخَوْفَ مِنْ أَكْلِ مَالِ الزَّوْجَةِ الْيَتِيمَةِ فَعَلَيْكُمْ أَلَّا تَتَزَوَّجُوا بِهَا، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ لَكُمْ مَنْدُوحَةً عَنِ الْيَتَامَى بِمَا أَبَاحَهُ لَكُمْ مِنَ التَّزَوُّجِ بِغَيْرِهِنَّ إِلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَلَكِنْ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، أَوِ الزَّوْجَتَيْنِ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَلْتَزِمُوا وَاحِدَةً فَقَطْ، وَالْخَوْفُ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ يَصْدُقُ بِالظَّنِّ وَالشَّكِّ فِيهِ، بَلْ يَصْدُقُ بِتَوَهُّمِهِ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ قَدْ يَغْتَفِرُ الْوَهْمَ ; لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو مِنْهُ عِلْمٌ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَالَّذِي يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ثَانِيَةً، أَوْ أَكْثَرَ هُوَ الَّذِي يَثِقُ مِنْ نَفْسِهِ بِالْعَدْلِ، بِحَيْثُ لَا يَتَرَدَّدُ فِيهِ، أَوْ يَظُنُّ ذَلِكَ، وَيَكُونُ التَّرَدُّدُ فِيهِ ضَعِيفًا.
قَالَ: وَلَمَّا قَالَ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا