وَخِلَافُ الْأَصْلِ، فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي مُخَاطَبَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْحُكْمِ مِنَ الْأَزْوَاجِ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالْمَمْلُوكُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ: لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ فَقَطْ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الظَّاهِرِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ لِلْوُجُوبِ، فَالزَّوَاجُ وَاجِبٌ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوَاجُ أَعْظَمَ سُنَنِ الْفِطْرَةِ الَّتِي رَغَّبَ فِيهَا دِينُ الْفِطْرَةِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: النُّكْتَةُ فِي اخْتِيَارِ (مَا) عَلَى " مَنْ " فِي قَوْلِهِ: مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَهِيَ إِرَادَةُ الْوَصْفِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَانْكِحُوا أَيَّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِهِنَّ مِنَ الثَّيِّبَاتِ وَالْأَبْكَارِ وَذَوَاتِ الْجَمَالِ وَذَوَاتِ الْمَالِ وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ كَلِمَةُ " مَا " أَوْ تَغْلِبُ فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ إِذَا أُرِيدَ بِهَا الذَّاتُ لَا الْوَصْفُ. فَيَقُولُ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ فِي السُّؤَالِ عَنْ ذَاتِهِ، وَشَخْصِهِ وَتَقُولُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فِي السُّؤَالِ عَنْ صِفَتِهِ وَنَعْتِهِ. وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ النُّكْتَةَ فِي ذَلِكَ هِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ النِّسَاءَ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ فَأُنْزِلْنَ مَنْزِلَةَ غَيْرِ الْعَاقِلِ يَأْبَاهُ هَذَا الْمَقَامُ الَّذِي قُرِّرَ فِيهِ تَكْرِيمُهُنَّ، وَحِفْظُ حُقُوقِهِنَّ، وَحُرِّمَ فِيهِ ظُلْمُهُنَّ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَ (أَوْ) فِيهِ لِلتَّسْوِيَةِ يَعْنِي إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ فَأَكْثَرَ فَأَنْتُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالتَّسَرِّي. وَظَاهِرُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ الْوَاحِدَةَ يَطْلُبُ فِي نِكَاحِهَا الْعَدْلَ، فَإِنْ خَافَ أَلَّا يَعْدِلَ فِي مُعَامَلَتِهَا لَجَأَ إِلَى التَّسَرِّي، وَإِنَّمَا يَشْتَرِطُ الْجَمَاهِيرُ الْعَجْزَ عَنِ التَّزَوُّجِ بِالْحُرَّةِ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ لَا فِي التَّسَرِّي بِهَا، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا [٤: ٢٥] الْآيَةَ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً هَذَا حُكْمٌ آخَرُ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ يُرَجِّحُ كَوْنَ هَذِهِ الْآيَةِ نَزَلَتْ فِيهِنَّ لَا أَنَّ حُكْمَ تَعَدُّدِهِنَّ فِي الزَّوْجِيَّةِ جَاءَ عَرَضًا وَتَبَعًا لِأَحْكَامِ الْيَتَامَى مِنْهُنَّ، أَيْ وَأَعْطُوا النِّسَاءَ اللَّوَاتِي تَعْقِدُونَ عَلَيْهِنَّ
مُهُورَهُنَّ نِحْلَةً، أَيْ عَطَاءَ نِحْلَةٍ، أَيْ فَرِيضَةً لَازِمَةً عَلَيْكُمْ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيحٍ: فَرِيضَةً مُسَمَّاةً، وَقِيلَ: دِيَانَةً مِنَ النِّحْلَةِ بِمَعْنَى الْمِلَّةِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النِّحْلَةَ: الْمَهْرُ. وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمُفْرَدَاتِ أَنَّ النِّحْلَةَ تُطْلَقُ عَلَى مَا يَنْحُلُهُ الْإِنْسَانُ وَيُعْطِيهِ هِبَةً عَنْ طِيبِ نَفْسٍ بِدُونِ مُقَابَلَةِ عِوَضٍ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا. قَالَ:
الصَّدُقَاتُ: جَمْعُ صَدُقَةٍ بِضَمِّ الدَّالِّ، وَفِيهِ لُغَاتٌ، مِنْهَا الصَّدَاقُ: وَهُوَ مَا يُعْطَى لِلْمَرْأَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُلَاحَظَ فِي هَذَا الْعَطَاءِ مَعْنَى أَعْلَى مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي لَاحَظَهُ الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْفُقَهَاءَ مِنْ أَنَّ الصَّدَاقَ وَالْمَهْرَ بِمَعْنَى الْعِوَضِ عَنِ الْبِضْعِ، وَالثَّمَنِ لَهُ، كَلَّا إِنَّ الصِّلَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَعْلَى، وَأَشْرَفُ مِنَ الصِّلَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَفَرَسِهِ، أَوْ جَارِيَتِهِ،


الصفحة التالية
Icon