فَالْوَلِيُّ يُعَرِّفُهُ أَنَّ الْمَالَ مَالُهُ، وَهُوَ خَازِنٌ لَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا زَالَ صِبَاهُ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْمَالَ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ سَفِيهًا، وَعَظَهُ، وَنَصَحَهُ، وَحَثَّهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَرَغَّبَهُ فِي تَرْكِ التَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ، وَعَرَّفَهُ أَنَّ عَاقِبَتَهُ الْفَقْرُ، وَالِاحْتِيَاجُ إِلَى الْخَلْقِ إِلَى مَا يُشْبِهُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْكَلَامِ، قَالَ الرَّازِيُّ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمَعْرُوفُ هُوَ مَا تَعْرِفُهُ النُّفُوسُ الْكَرِيمَةُ، وَتَأْلَفُهُ، وَيُقَابِلُهُ الْمُنْكَرُ وَهُوَ: مَا تُنْكِرُهُ وَتَمُجُّهُ. فَالْمَعْرُوفُ هُنَا: يَشْمَلُ تَطْيِيبَ الْقُلُوبِ بِإِفْهَامِ السَّفِيهِ أَنَّ الْمَالَ مَالُهُ لَا فَضْلَ لِأَحَدٍ فِي الْإِنْفَاقِ مِنْهُ عَلَيْهِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الْحَجْرُ، وَيَشْمَلُ النُّصْحَ، وَالْإِرْشَادَ، وَتَعْلِيمَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَهُ، وَمَا يَعُدُّهُ لِلرُّشْدِ، فَإِنَّ السَّفَهَ كَثِيرًا مَا يَكُونُ عَارِضًا لِلشَّخْصِ لَا فِطْرِيًّا، فَإِذَا عُولِجَ بِالنُّصْحِ وَالتَّأْدِيبِ
حَسُنَتْ حَالُهُ، فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي أَمَرَ اللهُ أَوْلِيَاءَ السُّفَهَاءِ بِهِ زِيَادَةً عَلَى حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَتَثْمِيرِهَا، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْهَا.
أَقُولُ: فَأَيْنَ مَكَانُ هَذِهِ الْوَصَايَا، وَالْأَوَامِرِ الْإِلَهِيَّةِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَالْأَوْصِيَاءِ الَّذِينَ نَعْرِفُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ السُّفَهَاءِ، وَيَمُدُّونَهُمْ فِي سَفَهِهِمْ، وَيَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَسْبَابِ الرُّشْدِ لِيَبْقَوْا مُتَمَتِّعِينَ بِالتَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ؟
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرْطَ أَوِ الصِّفَةَ الَّتِي يَجِبُ بِهَا إِيتَاءُ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ كَمَا أَمَرَ فِي آيَةِ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِإِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ كَانَ مُجْمَلًا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفْصِيلٌ لِكَيْفِيَّةِ الْإِيتَاءِ، وَوَقْتِهِ، وَمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ابْتِلَاءِ الْيَتِيمِ: كَيْفَ يَكُونُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْطَى شَيْئًا مِنَ الْمَالِ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ فَيُرَى تَصَرُّفُهُ كَيْفَ يَكُونُ؟ فَإِنْ أَحْسَنَ فِيهِ كَانَ رَاشِدًا، وَإِلَّا كَانَ سَفَهُهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْإِعْطَاءَ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ الِابْتِلَاءِ، وَإِينَاسِ الرُّشْدِ، فَمَنْ أَعْطَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْأَمْرِ وَمُجَازِفًا بِالْمَالِ. وَالصَّوَابُ: أَنْ يُحْضِرَهُ الْوَلِيُّ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةَ، وَيُطْلِعَهُ عَلَى كَيْفِيَّةِ التَّصَرُّفِ، وَيَسْأَلَهُ عِنْدَ كُلِّ عَمَلٍ عَنْ رَأْيِهِ فِيهِ، فَإِذَا رَأَى أَجْوِبَتَهُ سَدِيدَةً، وَرَأْيَهُ صَالِحًا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ رَشُدَ.
وَاعْتُرِضَ هَذَا أَيْضًا بِأَنَّ الْقَوْلَ لَا يُغْنِي عَنِ الْفِعْلِ شَيْئًا، فَإِنَّ قَلِيلًا مِنَ النَّبَاهَةِ يَكْفِي لِإِحْسَانِ الْجَوَابِ إِنْ قِيلَ لَهُ مَا تَقُولُ فِي ثَمَنِ هَذَا؟ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ نُسَمِّيهِمْ أَذْكِيَاءَ وَمُتَعَلِّمِينَ يَتَكَلَّمُ أَحَدُهُمْ فِي الزِّرَاعَةِ عَنْ عِلْمٍ يَقُولُ: يَنْبَغِي كَذَا مِنَ السَّمَادِ وَكَذَا مِنَ السَّقْيِ وَالْعَذْقِ، فَإِذَا أُرْسِلَ إِلَى الْأَرْضِ، وَكُلِّفَ الْعَمَلَ يَنَامُ مُعْظَمَ النَّهَارِ، وَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا، أَوْ يَعْمَلُ فَيُسِيءُ الْعَمَلَ، وَلَا يُحْسِنُهُ، بَلْ تَرَى مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْأَخْلَاقِ وَكَيْفِيَّةِ مُعَامَلَةِ النَّاسِ فَيُحْسِنُ الْقَوْلَ كَمَا يَنْبَغِي وَلَكِنَّهُ يُسِيءُ فِي الْمُعَامَلَةِ فَيَكُونُ عَمَلُهُ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ، فَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي قَدْ غَفَلَ عَنِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْعُقَلَاءُ وَهِيَ أَنَّ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالتَّجْرِبَةِ بَوْنًا شَاسِعًا، فَكَمَا رَأَيْنَا أُنَاسًا مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي الْكَلَامِ السُّفَهَاءِ فِي الْأَعْمَالِ الَّذِينَ إِذَا سَأَلْتَهُمْ عَنْ طُرُقِ


الصفحة التالية
Icon