أَوْ يَأْخُذُ الْفَأْلَ أَوْ الِاسْتِخَارَةَ - كَمَا يَقُولُونَ - بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ; فَيَصْبُغُونَ عَمَلَهُمْ بِصِبْغَةِ الدِّينِ، وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى النَّصِّ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الدِّينِ كَالنَّقْصِ مِنْهُ، وَهَلْ يَحِلُّ عَمَلُ الْجَاهِلِيَّةِ بِتَغْيِيرِ صُورَتِهِ؟ وَيُلْبِسُ الْبَاطِلَ ثَوْبَ الْحَقِّ فَيَصِيرُ حَقًّا؟ اللهُمَّ إِنَّكَ أَنْزَلْتَ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، فَتَرَكَ قَوْمٌ الِاهْتِدَاءَ، وَحَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَاكْتَفَوْا مِمَّا يَدَّعُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ، بِالِاسْتِقْسَامِ بِهِ كَمَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ، أَوْ الِاسْتِشْفَاءِ بِمِدَادٍ تُكْتَبُ بِهِ آيَاتُهُ فِي كَاغِدٍ أَوْ جَامٍ، اللهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنَا بِذُنُوبِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، فَقَدْ كَفَانَا مَا أَصَابَ الْأُمَّةَ بِضَلَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ، اللهُمَّ وَاجْعَلْ لَنَا فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِنْ فِتْنَتِهِمْ وَفِتْنَةِ مَنْ تَرَكُوا الدِّينَ كُلَّهُ اسْتِنْكَافًا مِنْ خُرَافَاتِهِمْ وَخُرَافَاتِ أَمْثَالِهِمْ.
وَلْيَعْلَمِ الْقَارِئُ أَنَّ الْعَادَةَ وَالْإِلْفَ يَجْعَلَانِ الْبِدْعَةَ مَعْرُوفَةً كَالسُّنَّةِ، وَالسُّنَّةَ مُنْكَرَةً كَالْبِدْعَةِ، فَمَا حَاوَلَ أَحَدٌ إِمَاتَةَ بِدْعَةٍ أَوْ إِحْيَاءَ سُنَّةٍ، إِلَّا وَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ عَمَلَهُ بِاسْمِ الدِّينِ، وَلَا طَالَ الْعَهْدُ عَلَى بِدْعَةٍ، إِلَّا وَتَأَوَّلُوا لِفَاعِلِيهَا وَانْتَحَلُوا لَهَا مُسَوِّغًا مِنَ الدِّينِ، وَمِنْ ذَلِكَ زَعْمُ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الِاسْتِقْسَامِ بِالسِّبَحِ وَغَيْرِهَا يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ مِنَ الْفَأْلِ الْحَسَنِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهُ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ الْحَسَنُ، وَمَا هُوَ مِنْهُ، إِنَّمَا الْفَأْلُ ضِدُّ الطِّيرَةِ الَّتِي نَفَتْهَا وَأَبْطَلَتْهَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَهُوَ أَنْ يَسْمَعَ الْإِنْسَانُ اسْمًا حَسَنًا أَوْ كَلِمَةَ خَيْرٍ، فَيَنْشَرِحَ لَهَا صَدْرُهُ وَيَنْشَطُ فِيمَا أَخَذَ فِيهِ، وَقِيلَ: يَكُونُ الْفَأْلُ فِي الْحَسَنِ وَالرَّدِيءِ. وَالطِّيَرَةُ بِوَزْنِ عِنَبَةٍ مَا يُتَشَاءَمُ بِهِ مِنَ الْفَأْلِ الرَّدِيءِ، هَذِهِ عِبَارَةُ الْقَامُوسِ، وَهِيَ مِنَ الطَّائِرِ ; إِذْ كَانُوا يَتَفَاءَلُونَ وَيَتَشَاءَمُونَ بِحَرَكَةِ الطَّيْرِ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ حَتَّى صَارَ زَجْرُ الطَّيْرِ عِنْدَهُمْ صِنَاعَةً، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالطَّائِرُ الدِّمَاغُ، وَمَا تَيَمَّنْتَ بِهِ أَوْ تَشَاءَمْتَ. اهـ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا طِيرَةَ " فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ يُبْطِلُ حَسَنَ الطِّيرَةِ وَرَدِيئَهَا ; لِأَنَّهُ خُرَافَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَلَا طَبْعًا، لَا فَرْقَ فِي التَّطَيُّرِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِحَرَكَةِ الطَّيْرِ أَوْ بِغَيْرِهَا مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
وَهَذِهِ الطِّيرَةُ قَدِيمَةُ الْعَهْدِ فِي الْعَرَبِ، وَقَدْ أَبْطَلَهَا اللهُ - تَعَالَى - قَبْلَ الْإِسْلَامِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا بَيَّنَ لَنَا ذَلِكَ فِي مُجَادَلَتِهِ لِقَوْمِهِ (ثَمُودَ) فِي سُورَةِ النَّمْلِ، قَالَ تَعَالَى: قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٢٧: ٤٧) وَالِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ أَوْ غَيْرِهَا شَرٌّ مِنَ التَّطَيُّرِ الَّذِي يَقَعُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ إِلَيْهِ، وَالْفَرْقُ وَاضِحٌ بَيْنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ عَرَضًا لِقِلَّةِ عَقْلِهِ، أَوْ تَأَثُّرِهِ بِأَحْوَالِ مَنْ تَرَبَّى بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ مَا يَسْعَى إِلَيْهِ مِنْهَا، وَيَسْتَثِيرُهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَجْعَلُهُ حَاكِمًا عَلَى قَلْبِهِ، فَيَعْمَلُ