وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِيسَى بْنِ حَارِثَةَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا فِي الدِّيوَانِ، فَقَالَ لَنَا نَصْرَانِيٌّ: يَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكُمْ آيَةٌ لَوْ أُنْزِلَتْ عَلَيْنَا لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَتِلْكَ السَّاعَةَ عِيدًا مَا بَقِيَ مِنَّا اثْنَانِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ مِنَّا، فَلَقِيتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَلَا رَدَدْتُمْ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أُنْزِلَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الْجَبَلِ يَوْمَ عَرَفَةَ فَلَا يَزَالُ ذَلِكَ الْيَوْمُ عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَرَوَى الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِعَرَفَةَ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، نَحْوَ مَا رَوَاهُ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ جَوَابِ عُمَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ قَرَأَ الْآيَةَ، فَقَالَ يَهُودِيٌّ: لَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْنَا لَاتَّخَذْنَا يَوْمَهَا عِيدًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدَيْنِ اثْنَيْنِ ; يَوْمِ عِيدٍ وَيَوْمِ جُمُعَةٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْيَوْمَ لَيْسَ بِيَوْمٍ مَعْلُومٍ يَعْلَمُهُ النَّاسُ، وَرَجَّحَ الرِّوَايَةَ عَنْ عُمَرَ فِي تَعْيِينِهِ بِصِحَّةِ سَنَدِهَا.
وَأَمَّا الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ إِكْمَالِ الدِّينِ لَهُمْ فَهُوَ خُلُوصُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ لَهُمْ، وَإِجْلَاءُ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُ حَتَّى حَجَّهُ الْمُسْلِمُونَ، وَهُمْ لَا يُخَالِطُهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ السَّلَفِ فِي مَسْأَلَةِ إِكْمَالِ الْفَرَائِضِ وَالْأَحْكَامِ فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ، وَذَكَرَ مَا رَوَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيِّ مِنْ تَفْسِيرِ الْإِكْمَالِ بِإِكْمَالِ الْفَرَائِضِ وَالْأَحْكَامِ، وَمَا يُعَارِضُهُ مِنْ قَوْلِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، فِي آيَةِ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنَّهَا آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ، وَنَقُولُ: لَا مُعَارَضَةَ فَإِنَّ مُرَادَهُ أَنَّهَا آخِرُ آيَاتِ الْفَرَائِضِ، وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ الْمَائِدَةِ وَسُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى التَّرْجِيحِ أَيْضًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَنْ قُبِضَ، وَكَوْنِهِ كَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ أَكْثَرَ مَا كَانَ تَتَابُعًا، وَجَعَلَ مِنْهُ آيَةَ الْفَتْوَى فِي الْكَلَالَةِ، وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ يَمْنَعُونَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا نَزَلَ بَعْدَ آيَةِ الْمَائِدَةِ، وَلَا يَمْنَعُونَ غَيْرَهَا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ فَرَائِضُ وَلَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، وَبِهَذَا يُبْطِلُ تَرْجِيحُهُ إِثْبَاتَ نُزُولِ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى نَفْيِهِ بِتَقْدِيمِ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي.
وَقَدْ كَانَ قَدَّمَ قَوْلَ مَنْ قَالُوا بِخِلَافِ مَا اخْتَارَهُ وَبَيَّنَهُ أَتَمَّ بَيَانٍ ; إِذْ قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَرَائِضِي عَلَيْكُمْ وَحُدُودِي وَأَمْرِي إِيَّاكُمْ وَنَهْيِي وحلَالِي وَحَرَامِي وَتَنْزِيلِي مِنْ ذَلِكَ مَا أَنْزَلْتُ مِنْهُ فِي كِتَابِي، وَتِبْيَانِي مَا بَيَّنْتُ لَكُمْ مِنْهُ بِوَحْيِي عَلَى لِسَانِ رَسُولِي، وَالْأَدِلَّةِ الَّتِي نَصَبْتُهَا لَكُمْ عَلَى جَمِيعِ مَا بِكُمُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، فَأَتْمَمْتُ لَكُمْ جَمِيعَ ذَلِكَ، فَلَا زِيَادَةَ فِيهِ بَعْدَ الْيَوْمِ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ تَارِيخَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهُ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْحَلَالِ


الصفحة التالية
Icon