وَالْمُوَافِقُ لِحِكْمَةِ التَّحْرِيمِ: الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَأْكُلَ مَا تَسْتَخْبِثُهُ نَفْسُهُ وَتَعَافُهُ ; لِأَنَّهُ يَضُرُّهُ وَلَا يَصْلُحُ لِتَغْذِيَتِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَا أَكَلْتَهُ وَأَنْتَ تَشْتَهِيهِ فَقَدْ أَكَلْتَهُ، وَمَا أَكَلْتَهُ وَأَنْتَ لَا تَشْتَهِيهِ فَقَدْ أَكَلَكَ. وَيُرْوَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعِبْرَةَ ذَوْقُ أَصْحَابِ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذَا أَوَّلًا، وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَافَ أَكْلَ الضَّبِّ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَرْضِ قَوْمِهِ، وَأَذِنَ لِغَيْرِهِ بِأَكْلِهِ وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يُحَرِّمُهُ، فَلَا يُحْكَمُ بِذَوْقِ قَوْمٍ عَلَى ذَوْقِ غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ هَذَا أَمْرًا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذَا النَّصِّ أَوَّلًا، فَالْعِبْرَةُ بِمَا يَفْهَمُونَهُ مِنْهُ، وَالنَّاسُ لَهُمْ فِيهِ تَبَعٌ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَذْوَاقِ وَالطِّبَاعِ، وَمَعْنَاهُ: أُحِلَّ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُكَلَّفُونَ مَا يُسْتَطَابُ أَكْلُهُ وَيُشْتَهَى، دُونَ مَا يُسْتَخْبَثُ وَيُعَافُ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْعِبْرَةُ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْ سَلِيمِي الطِّبَاعِ غَيْرِ ذَوِي الضَّرُورَاتِ وَالْمَعِيشَةِ الشَّاذَّةِ، أَوْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطِّبَاعِ بَيْنَ الْأَقْوَامِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُنْتِنُ: أَيَحْرُمُ أَمْ يُكْرَهُ؟ وَهُوَ خَبِيثٌ لُغَةً وَعُرْفًا، وَلَا يَرِدُ عَلَى الْحَصْرِ الْمَارِّ لِأَنَّ خُبْثَهُ عَارِضٌ، وَكُلُّ حَلَالٍ يَعْرِضُ لَهُ وَصْفٌ يَصِيرُ بِهِ ضَارًّا يَحْرُمُ - كَاخْتِمَارِ الْعَصِيرِ - فَإِنْ زَالَ حَلَّ ; كَتَخَلُّلِ الْخَمْرِ.
وَأَمَّا صَيْدُ الْجَوَارِحِ فَقَدْ قَيَّدَ النَّصُّ حِلَّهُ بِأَنْ يَكُونَ الْجَارِحُ الَّذِي صَادَهُ مِمَّا أَدَّبَهُ النَّاسُ وَعَلَّمُوهُ الصَّيْدَ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُنْسَبَ الصَّيْدُ إِلَيْهِمْ، وَيَكُونَ قَتْلُ الْجَارِحِ لَهُ كَتَذْكِيَةِ مُرْسِلِهِ إِيَّاهُ، فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْفَرَائِسِ، وَيُمْسِكُ الصَّيْدَ عَلَى الصَّائِدِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ أَيْ: فَكُلُوا مِنَ الصَّيْدِ مَا تُمْسِكُهُ الْجَوَارِحُ عَلَيْكُمْ، أَيْ تَصِيدُهُ لِأَجْلِكُمْ، فَتَحْبِسُهُ وَتَقِفُهُ عَلَيْكُمْ بِعَدَمِ أَكْلِهَا مِنْهُ، فَإِنْ أَكَلَتْ مِنْهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُ مَا فَضُلَ عَنْهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ ; لِأَنَّهُ مِثْلُ فَرِيسَةِ السَّبُعِ الْمُحَرَّمَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، بَلْ هِيَ
مِنْهَا ; لِأَنَّ الْكِلَابَ وَنَحْوَهَا مِنَ السِّبَاعِ، وَكَذَلِكَ تُسَمَّى السِّبَاعُ كِلَابًا، وَمِنْهُ حَدِيثُ اللهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ رَوَى أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ، إِلَّا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ ; فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي رِوَايَةٍ: " إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ، فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قُتِلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ ; فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاةٌ " الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ الْأَخْذُ بِظَاهِرِ عُمُومِ مِمَّا أَمْسَكْنَ فَقَالُوا: كُلُّ مَا جَاءَ بِهِ الْكَلْبُ أَوْ غَيْرُهُ، أَكَلَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ، فَهُوَ قَدْ أَمْسَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، فَلَهُ أَكْلُهُ.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ نَحْوَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَسَعْدٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَلْمَانَ أَنَّهُمَا قَالَا: وَإِنْ أَكَلَ ثُلُثَيْهِ، وَبَقِيَ الثُّلُثُ فَكُلْ، وَعَلَيْهِ مَالِكٌ.
وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ الْكِلَابِ وَنَحْوِهَا مِنَ السِّبَاعِ وَبَيْنَ الطَّيْرِ


الصفحة التالية
Icon