(حِكْمَةُ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ) بَيَّنَّا (فِي ص ٨١٨ و٨١٩ م ٦ الْمَنَارِ) حِكْمَةَ تَحْرِيمِ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ ثَلَاثِ وُجُوهٍ، أَوْ ذَكَرْنَا لَهُ ثَلَاثَ حِكَمٍ:
(١) تَعْظِيمُ شَأْنِ الْقَصْدِ فِي الْأُمُورِ
كُلِّهَا لِيَكُونَ الْإِنْسَانُ مُعْتَمِدًا عَلَى كَسْبِهِ وَسَعْيِهِ، فَإِنَّ التَّزْكِيَةَ عِبَارَةٌ عَنْ إِزْهَاقِ رُوحِ الْحَيَوَانِ لِأَجْلِ أَكْلِهِ، وَلَهَا صُوَرٌ وَكَيْفِيَّاتٌ كَثِيرَةٌ، كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لِلْآيَةِ.
(٢) أَنَّ الْمَيِّتَ حَتْفَ أَنْفِهِ يَغْلِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَاتَ لِمَرَضٍ أَوْ أَكْلِ نَبَاتٍ سَامٍّ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ لَحْمُهُ ضَارًّا، وَكَذَا إِذَا مَاتَ مِنْ شِدَّةِ الضَّعْفِ وَانْحِلَالِ الطَّبِيعَةِ.
(٣) اسْتِقْذَارُ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ لَهُ وَاسْتِخْبَاثُهُ وَعَدُّ أَكْلِهِ مَهَانَةً تُنَافِي عِزَّةَ النَّفْسِ وَكَرَامَتَهَا، ثُمَّ قُلْنَا هُنَالِكَ مَا نَصُّهُ:
" وَأَمَّا مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ حَتْفَ أَنْفِهَا مِنَ الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ إِلَخْ، فَيَظْهَرُ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِهِ كُلُّ مَا ذُكِرَ إِلَّا حِكْمَةَ تَوَقِّي الضَّرَرِ فِي الْجِسْمِ، فَيَظْهَرُ فِيهِ بَدَلُهَا تَنْفِيرُ النَّاسِ عَنْ تَعْرِيضِ الْبَهِيمَةِ لِلْمَوْتِ بِإِحْدَى هَذِهِ الْمِيتَاتِ الْقَبِيحَةِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَأَنْ يَعْرِفُوا أَنَّ الشَّرْعَ يَأْمُرُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى حَيَاةِ الْحَيَوَانِ، وَيَنْهَى عَنْ تَعْذِيبِهِ، أَوْ تَعْرِيضِهِ لِلتَّعْذِيبِ، وَيُعَاقِبُ مَنْ يَتَهَاوَنُ فِي ذَلِكَ بِتَحْرِيمِ أَكْلِ الْحَيَوَانِ عَلَيْهِ كَيْلَا يَتَهَاوَنَ فِي حِفْظِ حَيَاتِهِ، فَإِنَّ الرُّعَاةَ يَغْضَبُونَ أَحْيَانًا عَلَى بَعْضِ الْبَهَائِمِ، فَيَقْتُلُونَهُ بِالضَّرْبِ، وَيُحَرِّشُونَ بَيْنَ الْبَهَائِمِ فَيُغْرُونَ الْكَبْشَيْنِ بِالتَّنَاطُحِ حَتَّى يَهْلَكَا أَوْ يَكَادَا، وَمَنْ كَانَ يَرْعَى أَنْعَامَ غَيْرِهِ بِالْأُجْرَةِ يَقَعُ لَهُ مِثْلُ هَذَا أَكْثَرَ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا هَلَكَ بِتِلْكَ الْمِيتَاتِ حَلَالًا لَمَا بَعُدَ أَنْ يَتَعَمَّدَ الرُّعَاةُ وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ التُّحُوتِ تَعْرِيضَ الْبَهَائِمِ لَهَا لِيَأْكُلُوهَا بِعُذْرٍ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ ; مِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْحَذْفِ - وَهُوَ الرَّمْيُ بِالْحَصَا - وَالْبُنْدُقِ - الطِّينِ الْمَشْوِيِّ - لِذَلِكَ: إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا وَلَا تَنْكَأُ عَدُوًّا، وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. انْتَهَى.
ثُمَّ ذَكَرْنَا (فِي ص ٨٢٢ م ٦) حِكْمَةً أُخْرَى فِي ضِمْنِ مَقَالَةٍ وَعْظِيَّةٍ لِعَالِمٍ مَغْرِبِيٍّ أَيَّدَ بِهَا فَتْوَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، قَالَ: وَهَلْ عَرَفَ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ حِكْمَةَ الذَّبْحِ الْمُعْتَادِ، وَشُيُوعِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ، مَعَ قِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فِي الصَّيْدِ وَالدَّابَّةِ الشَّارِدَةِ وَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ وَالْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ؟ فَلْيَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ قَتْلٍ بِحَسْبِ الْأَصْلِ مُوَصِّلٌ لِلْمَقْصُودِ، وَلَكِنَّ اللهَ لِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِنَا وَبِالْحَيَوَانِ، جَعَلَ بَيْنَنَا قِسْمَةً عَادِلَةً وَمِنَّةً عَامَّةً، فَحَرَّمَ عَلَيْنَا مَا قَتَلَهُ الْحَيَوَانُ، وَمَا مَاتَ فِي الْخَلَاءِ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنَّا، لِيَبْقَى ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْحَيَوَانِ يَأْكُلُهُ ; لِأَنَّهَا أُمَمٌ أَمْثَالُنَا، وَكَأَنَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يَرْضَ أَنْ نَأْكُلَ مَا لَمْ نَقْصِدْهُ وَلَمْ نُفَكِّرْ فِيهِ، فَأَمَّا الْمُذَكَّى وَالصَّيْدُ وَالسَّمَكُ، وَالْجَرَادُ وَنَحْوُهَا، فَإِنَّهَا كُلَّهَا لَا تُؤْخَذُ إِلَّا بِالنَّصَبِ وَالتَّعَبِ. انْتَهَى.
أَقُولُ: إِنَّنِي لَمَّا رَأَيْتُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ الَّتِي لَمْ تَكُنْ خَطَرَتْ فِي بَالِي تَذَكَّرْتُ أَنْ أُرَاجِعَ كِتَابَ حُجَّةِ اللهِ الْبَالِغَةِ ; لَعَلِّي أَجِدُّ فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ مَا أَقْتَبِسُهُ فِي هَذَا الْمَقَالِ، فَرَأَيْتُهُ أَطَالَ فِي بَيَانِ