الْأَحْكَامِ، وَالتَّوْرَاةَ: وَهِيَ الشَّرِيعَةُ الْمُوسَوِيَّةُ، وَالْإِنْجِيلَ: وَهُوَ مَا أَوْحَاهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ، وَالْبِشَارَةِ بِخَاتَمِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي حَقِيقَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [ص ١٢٩ إِلَى ١٣٢ ج ٣ ط الْهَيْئَةِ] وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ [ص ٢٣٤ ٢٥٠ ج ٦ ط الْهَيْئَةِ].
(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي) قَرَأَ نَافِعٌ هُنَا وَفِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ " فَتَكُونُ طَائِرًا " وَالطَّائِرُ وَاحِدُ الطَّيْرِ كَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ وَالْجُمْهُورُ: " فَتَكُونُ طَيْرًا " قِيلَ: هُوَ جَمْعٌ، وَقِيلَ: اسْمُ جَمْعٍ، وَأَجَازَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَقُطْرُبُ إِطْلَاقَ طَيْرٍ عَلَى الْوَاحِدِ، وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ الْمَصْدَرُ كَمَا وَجَّهَهُ ابْنُ سِيدَهْ، وَلَفَظُ الطَّيْرِ مُؤَنَّثٌ بِمَعْنَى جَمَاعَةٍ. وَالْخَلْقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: التَّقْدِيرُ؛ أَيْ جَعْلُ الشَّيْءِ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ. يُقَالُ: خَلَقَ الْإِسْكَافِيُّ النَّعْلَ ثُمَّ فَرَاهُ، أَيْ عَيَّنَ شَكْلَهُ وَمِقْدَارَهُ، ثُمَّ قَطَعَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَأَنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ، وَبَعْ | ضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لْا يَفْرِي |
وَاسْتَدْرَكْنَا عَلَى ذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى دَلَالَةِ آيَةِ الْمَائِدَةِ هَذِهِ عَلَى وُقُوعِهَا مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ بِذَلِكَ، وَبَيَّنَّا سِرَّ ذَلِكَ وَحِكْمَتَهُ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ قُوَّةُ رُوحَانِيَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا يَبْعُدُ كِتْمَانُ الْيَهُودِ لِهَذِهِ الْآيَةِ إِذَا كَانَ رَآهَا بَعْضُهُمْ مَرَّةً وَاحِدَةً وَعَدَّهُ مِنَ السِّحْرِ اعْتِقَادًا أَوْ مُكَابَرَةً وَخَافَ أَنْ تَجْذِبَ قَوْمَهُ إِلَى الْمَسِيحِ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (بِإِذْنِي)
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُعْطَ هَذِهِ الْقُوَّةَ دَائِمًا بِحَيْثُ جُعِلَ السَّبَبُ الرُّوحِيُّ فِيهَا كَالْأَسْبَابِ الْجُسْمَانِيَّةِ الْمُطَّرِدَةِ، بَلْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَغَيْرِهَا لَا تَقَعُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللهِ وَتَأْيِيدٍ مِنْ لَدُنْهِ، وَنُكْتَةُ التَّعْبِيرِ بِالْمُضَارِعِ عَنْ فِعْلٍ مَضَى هِيَ تَصْوِيرُ ذَلِكَ الْمَاضِي وَتَمْثِيلُهُ حَاضِرًا فِي الذِّهْنِ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي الْخَارِجِ، لَا لِإِفَادَةِ الِاسْتِمْرَارِ، فَإِنَّهُ فِعْلٌ مَضَى وَالْكَلَامُ تَذْكِيرٌ بِهِ كَمَا وَقَعَ إِذْ وَقَعَ.
(وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي) عَطَفَ التَّذْكِيرَ بِإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ عَلَى مَا قَبْلَهُ مُبَاشَرَةً فَلَمْ يَبْدَأْ بِإِذْ، وَبُدِئَ بِهَا لِلتَّذْكِيرِ بِإِخْرَاجِ الْمَوْتَى، فَكَانَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وَلَعَلَّ نُكْتَةَ ذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاءَ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ مِنْ جِنْسِ