مِرْآةِ نَفْسِهِ، وَيُحَقِّرُ غَيْرَهُ أَوْ نَفْسَهُ مُتَمَثِّلَةً فِي مِرْآةِ جِنْسِهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إِنْكَارُ الْكُفَّارِ لِبِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَكَانُوا تَارَةً يَكْتَفُونَ بِجَعْلِ الْبَشَرِيَّةِ عِلَّةً لِلْإِنْكَارِ كَمَا تَرَى فِي سُورَةِ هُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْإِسْرَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَيس وَالْقَمَرِ وَالتَّغَابُنِ وَتَارَةً يُصَرِّحُونَ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْكِبْرِ وَاسْتِثْقَالِهِمْ تَفْضِيلَ الرُّسُلِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَعَلَى هَذَا بَنَوُا اقْتِرَاحَ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ مُبَاشَرَةً أَوْ عَلَى الرُّسُلِ مُؤَيِّدَةً لَهُمْ كَقَوْلِ قَوْمِ نُوحٍ: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً) (٢٣: ٢٤).
جَمَعَ مُشْرِكُو مَكَّةَ بَيْنَ الِاقْتِرَاحَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا اقْتِرَاحِ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ
عَلَيْهِمْ، وَاقْتِرَاحِ نُزُولِ مَلَكٍ عَلَى النَّبِيِّ يَرَوْنَهُ بِأَعْيُنِهِمْ وَلَوْلَا قَيْدُ الرُّؤْيَةِ لَمْ يَكُنْ لِلِاقْتِرَاحِ فَائِدَةٌ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ يُنَزَّلُ عَلَيْهِ الْمَلَكُ، وَكَأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ مُسَاوَاتَهُمْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَشَرِيَّةِ تَقْتَضِي مُسَاوَاتَهُ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِرُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ وَتَلَقِّي الْعِلْمَ عَنْهُمْ. وَهَذِهِ أَقْوَى شُبْهَةٍ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْوَحْيِ; فَإِنَّهُمْ لِغُرُورِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ يُنْكِرُونَ كُلَّ مَا لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ بِأَنْفُسِهِمْ.
وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الِاقْتِرَاحَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ مَلَكًا كَمَا اقْتَرَحُوا لَقُضِيَ الْأَمْرُ بِإِهْلَاكِهِمْ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، أَيْ لَا يُؤَخَّرُونَ وَلَا يُمْهَلُونَ لِيُؤْمِنُوا، بَلْ يَأْخُذُهُمُ الْعَذَابُ عَاجِلًا كَمَا مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ اللهِ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: وَلَوْ أَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَتِهِ لَأَهْلَكْنَاهُمْ ثُمَّ لَا يُؤَخَّرُونَ، وَقَالَ قَتَادَةُ يَقُولُ لَوْ أَنْزَلَ اللهُ مَلَكًا ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ، وَلَكِنْ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أَيْ لَقَامَتِ السَّاعَةُ وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ قَضَاءِ الْأَمْرِ هُنَا عِدَّةَ وُجُوهٍ:
(١) أَنَّ سُنَّةَ اللهِ فِي أَقْوَامِ الرُّسُلِ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا اقْتَرَحُوا آيَةً وَأُعْطُوهَا وَلَمْ يُؤْمِنُوا يُعَذِّبُهُمُ اللهُ بِالْهَلَاكِ، وَالِاسْتِئْصَالِ الَّذِي تَتَوَلَّى تَنْفِيذَهُ الْمَلَائِكَةُ، وَاللهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَأْصِلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ الَّتِي بَعَثَ فِيهَا خَاتَمَ رُسُلِهِ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ، فَالرَّحْمَةُ الْعَامَّةُ تُنَافِي هَذَا الْعَذَابَ الْعَامَّ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (٢١: ١٠٧).
(٢) أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ لَوْ شَاهَدُوا الْمَلَكَ بِصُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ كَمَا يَطْلُبُونَ لَزَهَقَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ هَوْلِ مَا يُشَاهِدُونَ.
(٣) أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَلَكِ بِصُورَتِهِ آيَةٌ مُلْجِئَةٌ يَزُولُ بِهَا الِاخْتِيَارُ الَّذِي هُوَ قَاعِدَةُ التَّكْلِيفِ، وَهَذَا عَلَى قَاعِدَةِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَعِبَارَةُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ تَعْلِيلَاتِ قَضَاءِ الْأَمْرِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ يَزُولُ الِاخْتِيَارُ الَّذِي هُوَ قَاعِدَةُ التَّكْلِيفِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ فَيَجِبُ إِهْلَاكُهُمُ انْتَهَى وَهَذَا التَّفْرِيعُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.


الصفحة التالية
Icon