فِيهَا دَائِمًا مَا دَامَتْ كَذَلِكَ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ، فَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَشْقِيَاءِ إِنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنَ النَّارِ وَهِيَ نَارٌ فَعَلَ. وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا بَعْدَ دُخُولِهَا لَا فِيمَا قَبْلَهُ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ فَإِنَّهُمْ لَا يَخْلُدُونَ فِيهَا وَيَكُونُ الْأَشْقِيَاءُ نَوْعَيْنِ: نَوْعًا يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَنَوْعًا يَخْلُدُونَ فِيهَا، فَيَكُونُونَ مِنَ الَّذِينَ شَقُوا أَوَّلًا ثُمَّ يَصِيرُونَ مِنَ الَّذِينَ سُعِدُوا فَتَجْتَمِعُ لَهُمُ الشَّقَاوَةُ وَالسَّعَادَةُ فِي وَقْتَيْنِ.
قَالُوا: وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ مَآبًا لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا جَزَاءً وِفَاقًا إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا) (٧٨: ٢١ - ٢٨) فَهَذَا صَرِيحٌ فِي وَعِيدِ الْكُفَّارِ وَالْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ. وَلَا يُقَدَّرُ الْأَبَدِيُّ بِمُدَّةِ الْأَحْقَابِ وَلَا غَيْرِهَا. كَمَا لَا يُقَدَّرُ بِهِ الْقَدِيمُ ; وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو فِيمَا رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بَلْجٍ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ يُحَدِّثُ عَنْهُ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى جَهَنَّمَ يَوْمٌ تُصْفَقُ فِيهِ أَبْوَابُهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا.
(فَصَلٌ وَالَّذِينَ قَطَعُوا بِدَوَامِ النَّارِ لَهُمْ سِتَّةُ طُرُقٍ)
أَحَدُهَا - اعْتِقَادُ الْإِجْمَاعِ فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ هَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ حَادَثٌ وَهُوَ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي - أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَذَابٌ مُقِيمٌ وَأَنَّهُ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ، وَأَنَّهُ لَنْ يَزِيدَهُمْ إِلَّا عَذَابًا، وَأَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ، وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ، وَأَنَّ اللهَ حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ وَأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا. وَأَنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، أَيْ مُقِيمًا لَازِمًا، قَالُوا: وَهَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِدَوَامِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ.
الطَّرِيقُ الثَّالِثُ - أَنَّ السُّنَّةَ الْمُسْتَفِيضَةَ أَخْبَرَتْ بِخُرُوجِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ دُونَ الْكُفَّارِ، وَأَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا صَرِيحَةٌ فِي خُرُوجِ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ وَأَنَّ هَذَا حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِهِمْ، فَلَوْ خَرَجَ الْكَفَّارُ مِنْهَا لَكَانُوا
بِمَنْزِلَتِهِمْ وَلَمْ يَخْتَصَّ الْخُرُوجُ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ.
الطَّرِيقُ الرَّابِعُ - أَنَّ الرَّسُولَ وَقَّفَنَا عَلَى ذَلِكَ وَعَلِمْنَاهُ مِنْ دِينِهِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بِنَا إِلَى نَقْلٍ مُعَيَّنٍ كَمَا عَلِمْنَا مِنْ دِينِهِ دَوَامَ الْجَنَّةِ وَعَدَمَ فَنَائِهَا.
الطَّرِيقُ الْخَامِسُ - أَنَّ عَقَائِدَ السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ وَأَنَّهُمَا لَا تَفْنَيَانِ بَلْ هُمْ دَائِمَتَانِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ فَنَاءَهُمَا عَنْ أَهْلِ الْبِدَعِ.