كَانَ تَرْكُهُمْ لِهِدَايَتِهِ هُوَ الَّذِي سَلَبَهُ ذَلِكَ حَتَّى انْقَلَبَ الْأَمْرُ، وَانْعَكَسَ الْوَضْعُ، وَاتَّبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، كَمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ، فَالسَّوَادُ الْأَعْظَمُ الْجَاهِلُ اتَّبَعَ سُنَنَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي شَرِّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي طَوْرِ جَهْلِهِمْ مِنَ الْخُرَافَاتِ، وَابْتِدَاعِ الِاحْتِفَالَاتِ، وَتَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَاتِّخَاذِ الْأَرْبَابِ وَالْأَنْدَادِ، كَإِعْطَاءِ
حَقِّ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ لِلْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، وَطَلَبِ النَّفْعِ، وَدَفْعِ الضُّرِّ مِنْ دَجَّالِي الْأَحْيَاءِ، وَقُبُورِ الْأَمْوَاتِ، فَغَشِيَهُمْ مَا غَشِيَ أُولَئِكَ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ، وَجَعَلَ الدِّينَ عَدُوًّا لِلْعِلْمِ وَالْعَقْلِ، وَالنَّابِتَةُ الْعَصْرِيَّةُ الْمُتَفَرْنِجَةُ اتَّبَعَتْ سُنَنَ الْمُرْتَدِّينَ الْفَاسِقِينَ مِنْهُمْ فِي شَرِّ مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ طَوْرِ فَسَادِ حَضَارَتِهِمْ، وَقَلَّدُوهُمْ حَتَّى فِيمَا لَا يَنْطَبِقُ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ، كَذَلِكَ ضَلَّ الْفَرِيقَانِ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَاشْتَرَكَا فِي إِضَاعَةِ مَا بَقِيَ مِنْ مُلْكِ الْإِسْلَامِ.
لَا عَالِمَ الشَّرْقِ بِدِينِهِ وَلَا | مُقْتَبِسَ الْعِلْمِ مِنَ الْغَرْبِ هُدَى |
فَعُلِمَ بِمَا ذُكِرَ وَبِغَيْرِهِ أَنَّ الْعِلْمَ بِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ لَا يُغْنِي عَنْ هِدَايَةِ الدِّينِ الَّتِي تُوقِفُ أَهْوَاءَ الْبَشَرِ وَمَطَامِعَهُمْ أَنْ تَجْمَحَ إِلَى مَا لَا غَايَةَ لَهُ مِنَ الشَّرِّ، وَلَوْلَا أَنَّ عِنْدَ بَعْضِ أُمَمِ أُورُبَّةَ بَقِيَّةً قَلِيلَةً مِنْهَا تَتَفَاوَتُ فِي أَفْرَادِهِمْ قُوَّةً وَضَعْفًا لَحَشَرَتْهُمُ الْمَطَامِعُ وَالْأَحْقَادُ صَفًّا صَفًّا، فَدَكُّوا مَعَالِمَ أَرْضِهِمُ الَّتِي بَلَغَتْ مُنْتَهَى الْعُمْرَانِ دَكًّا دَكًّا، فَجَعَلُوهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا، بَلْ لَجَعَلُوهَا بَعْدَ دَكِّ صُرُوحِهَا وِهَادًا عَمِيقَةً، وَمَهَاوِيَ سَحِيقَةً، بِقَذَائِفِ الْمَدَافِعِ الضَّخْمَةِ الَّتِي تَشُقُّ الْأَرْضَ شَقًّا، وَتَسْحَقُ مَا فِيهَا سَحْقًا، عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ شَرَعُوا، فَإِمَّا أَنْ يُجَهِّزُوا وَإِمَّا أَنْ يَنْزَعُوا.
قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (١١: ١١٦، ١١٧)