وَإِنَّمَا يَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنِ السُّفَهَاءِ; لِأَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ الْحَقَّ إِذَا فَقَدُوهُ، وَلَا يَأْخُذُونَ فِيمَا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ إِذَا وَجَدُوهُ، وَلَا يَرْعَوْنَ عَهْدًا، وَلَا يَحْفَظُونَ وُدًّا، وَلَا يَشْكُرُونَ مِنَ النِّعْمَةِ إِلَّا مَا اتَّصَلَ مَدَدُهُ، فَإِذَا انْقَطَعَ عَادَ الشُّكْرُ كُفْرًا، وَاسْتَحَالَ الْمَدْحُ ذَمًّا.
أَكْثَرُ مَا كَتَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنَ الْآدَابِ، وَأَقَلُّهُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ، وَرُوِيَ عَنْ جَدِّنَا الْإِمَامِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْهَا، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ الْأَخْلَاقَ ثَلَاثَةٌ بِحَسَبِ الْقُوَى الْإِنْسَانِيَّةِ، عَقْلِيَّةٌ، وَشَهْوِيَّةٌ، وَغَضَبِيَّةٌ، فَالْعَقْلِيَّةُ الْحِكْمَةُ، وَمِنْهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالشَّهْوِيَّةُ الْعِفَّةُ وَمِنْهَا أَخْذُ الْعَفْوِ، وَالْغَضَبِيَّةُ الشَّجَاعَةُ وَمِنْهَا الْإِعْرَاضُ عَنِ الْجَاهِلِينَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مُرْسَلًا وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ لَمَّا نَزَلَتْ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ سَأَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلَ عَنْهَا فَقَالَ: " لَا أَعْلَمُ حَتَّى أَسْأَلَ. ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ " اهـ. مِنْ فَتْحِ الْبَارِي، وَمُرَادُ الْإِمَامِ أَعْلَى وَأَشْمَلُ مِنْ ذَلِكَ، وَفَهْمُهُ أَبْعَدُ وَأَوْسَعُ مِنْ فَهْمِ مَنْ عَلَّلَهُ أَوْ فَسَّرَهُ كَمَا عَلِمْتَ مِنْ تَفْسِيرِهَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ بَعْضَ الْحُكَمَاءِ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى فَسَبَكَهُ فِي بَيْتَيْنِ فِيهِمَا جِنَاسٌ فَقَالَ:
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِعُرْفٍ كَمَا | أُمِرْتَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ |
وَلِنْ فِي الْكَلَامِ لِكُلِّ الْأَنَامِ | فَمُسْتَحْسَنٌ مِنْ ذَوِي الْجَاهِ لِينَ |
جَانِبَ الصَّفْحِ بِالصَّبْرِ الَّذِي يَتَأَتَّى لِلْعَبْدِ بِهِ كُلُّ مُرَادٍ فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ. وَلَوْ شَرَحْنَا ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ لَكَانَ أَسْفَارًا. اهـ. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ مَا جَمَعَتْهُ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الثَّلَاثُ مِنَ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ هُوَ مِنْ إِعْجَازِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ، الَّذِي لَا مَطْمَعَ فِي مِثْلِهِ لِإِنْسٍ وَلَا جَانٍّ وَاللهُ أَعْلَمُ.