فَهُوَ جَهْلٌ بِاللهِ وَجَهْلٌ بِدِينِهِ وَجَهْلٌ بِسُنَنِهِ الَّتِي أَخْبَرْنَا بِأَنَّهَا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، وَمَثَلُهُ فِيهِ كَمَثَلِ مَنْ أَمَرَهُ مَلِكُهُ أَوْ مَالِكُهُ بِأَنْ يُعَوِّلَ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَسَائِرِ حَاجَةٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَطْلُبَ مِنْ غَيْرِهِ شَيْئًا، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَلِكُ أَوِ الْمَالِكُ قَدْ أَعَدَّ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ كُلَّ يَوْمٍ مَائِدَةً لِطَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ، فَتَنَطَّعَ هُوَ وَامْتَنَعَ عَنِ الِاخْتِلَافِ إِلَى الْمَائِدَةِ مَعَ أَمْثَالِهِ زَاعِمًا أَنَّ هَذَا عِصْيَانٌ لِأَمْرِ الْمَلِكِ فِي التَّعْوِيلِ عَلَيْهِ، وَانْتَظَرَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ طَعَامًا خَاصًّا - أَيْ إِنَّهُ يَطْلُبُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُبْطِلَ سُنَنَهُ فِي خَلْقِهِ لِأَجْلِهِ - فَمَا أَعْظَمَ جَهْلَهُ وَغُرُورَهُ بِهِ؟.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّوَكُّلِ مَعَ بَسْطِ الْقَوْلِ فِيهِ، وَكَوْنِهِ يَسْتَلْزِمُ الْأَخْذَ بِالْأَسْبَابِ فِي تَفْسِيرِ: وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٣: ١٦٠) مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فَيُرَاجَعُ فِي [ص١٦٩ - ١٧٥ ج ٤ ط الْهَيْئَةِ] وَسَيَأْتِي التَّذْكِيرُ بِبَعْضِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَوَكُّلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْفَالِ).
(الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي تَفْسِيرِ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ (٢: ٤٥) مِنْهَا، وَفِي تَفْسِيرَاتٍ أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا، وَمُلَخَّصُهَا: أَنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ عِبَارَةٌ عَنْ أَدَائِهَا مُقَوَّمَةً كَامِلَةً فِي صُورَتِهَا وَأَرْكَانِهَا الظَّاهِرَةِ، مِنْ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَقِرَاءَةٍ وَذِكْرٍ، وَفِي مَعْنَاهَا وَرُوحِهَا الْبَاطِنَةِ مِنْ خُشُوعٍ وَحُضُورٍ فِي مُنَاجَاةِ الرَّحْمَنِ، وَتَدَبُّرٍ وَاتِّعَاظٍ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ
هَذِهِ الْإِقَامَةَ هِيَ الَّتِي يَسْتَفِيدُ صَاحِبُهَا مَا جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى ثَمَرَةً لِلصَّلَاةِ مِنَ الِانْتِهَاءِ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُرَاجَعُ فِي مَوَاضِعِهِ.
(الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أَيْ: وَيُنْفِقُونَ بَعْضَ مَا رَزَقَهُمُ اللهُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ مِنْ زَكَاةٍ مَفْرُوضَةٍ; لِإِقَامَةِ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ لِلْأَقْرَبِينَ وَالْمُعْوِزِينَ وَمَصَالِحِ الْأُمَّةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، مَعَ التَّنْبِيهِ إِلَى كَثْرَةِ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنْ جَعْلِ الزَّكَاةِ أَوِ النَّفَقَةِ مُقَارِنَةً لِلصَّلَاةِ; لِأَنَّهُمَا الْعِبَادَتَانِ اللَّتَانِ عَلَيْهِمَا مَدَارُ الْإِصْلَاحِ الرُّوحِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ فِي الْمِلَّةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْإِنْفَاقِ أَعَمُّ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالزَّكَاةِ كَمَا عَلِمْتَ.
أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا أَيْ: أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ كُلِّهَا هُمْ دُونَ سِوَاهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا حَقًّا، أَوْ حَقَّ الْإِيمَانِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ، أَوْ حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا أَوْ حَقَّقْتُهُ حَقًّا، ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ حَقَّ الْإِيمَانِ هُوَ مَا أَعْقَبَ التَّصْدِيقَ الْإِذْعَانِيَّ فِيهِ أَثَرُهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ، وَبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ جَمَعَتِ الصِّفَاتُ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا كُلَّ ذَلِكَ بِحَيْثُ تَتْبَعُهَا سَائِرُ شُعَبِ الْإِيمَانِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: فَلَا شَاعِرَ حَقًّا أَوْ فَارِسَ حَقًّا لِمَنْ نَبَغَ فِي الشِّعْرِ وَلِمَنْ كَمُلَتْ فِيهِ صِفَاتُ الْفُرُوسِيَّةِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ يُؤْثَرُ لِلْعِبْرَةِ