وَسَلَّمَ، وَقَدْ رَآهُ مُنْزَعِجًا خَائِفًا فَكَانَ هَمُّهُ تَسْلِيَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَذْكِيرَهُ بِوَعْدِ رَبِّهِ لِشِدَّةِ حُبِّهِ لَهُ، وَفِي الْغَارِ كَانَ خَائِفًا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ رَآهُ مُطْمَئِنًّا فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَسْلِيَتِهِ، بَلْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُسَلِّي لَهُ لِمَا رَأَى مِنْ خَوْفِهِ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ أَلَمٌ أَوْ أَذًى.
فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ مَقَامٍ حَقَّهُ: مَقَامَ التَّوَكُّلِ الْمَحْضِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ أَسْبَابِ اتِّقَاءِ أَذَى الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الْهِجْرَةِ، وَمَقَامَ الْخَوْفِ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ كَرَاهَةِ بَعْضِهِمْ لِلْقِتَالِ، وَمُجَادَلَتِهِمْ لَهُ فِيهِ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ تَعَالَى بِوَعْدِهِ إِيَّاهُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ. أَجَلْ، كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ أَنَّ شُئُونَ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ كَسَائِرِ أَطْوَارِ الْعَالَمِ، لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا سُنَنٌ مُطَّرِدَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ، كَمَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ بِوَجْهٍ عَامٍّ، ثُمَّ ذُكِرَ بِشَأْنِ الْقِتَالِ خَاصَّةً فِي الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ الْمَدَنِيَّةِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا (٣: ١٣٧) ثُمَّ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ الْمَدَنِيَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي غَزْوَتِهَا الَّتِي تُسَمَّى غَزْوَةَ الْخَنْدَقِ أَيْضًا. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ أَنَّ سُنَنَهُ تَعَالَى فِي الْقِتَالِ كَسَائِرِ سُنَنِهِ فِي أَنَّهَا لَا تَبْدِيلَ لَهَا، وَلَا تَحْوِيلَ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ الْمَدَنِيَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ نَزَلَتَا بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَلِذَلِكَ كَانَ خَوْفُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَظِيمًا.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا وَقَدْ وَعَدَهُ اللهُ تَعَالَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا تَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَكَشَفَ لَهُ عَنْ مَصَارِعِ صَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ؟ فَإِذَا كَانَ قَدْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ وَعْدُهُ الْعَامُّ بِالنَّصْرِ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ - وَهُوَ مُكَرَّرٌ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، وَصَرَّحَ فِي بَعْضِهَا بِأَنَّهُ مِنْ سُنَنِهِ فِي رُسُلِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ - غَيْرَ مُعَيَّنٍ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، فَلَا يَأْتِي مِثْلُ هَذَا الْجَوَازِ فِي وَعْدِهِمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فِيهَا وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ نَجَتْ - طَائِفَةُ الْعِيرِ، وَانْحَصَرَ الْوَعْدُ فِي طَائِفَةِ النَّفِيرِ، وَبَعْدَ أَنْ كَشَفَ تَعَالَى لَهُ عَنْ مَصَارِعِ الْقَوْمِ؟.
قُلْنَا: أَمَّا كَشْفُ مَصَارِعِ الْقَوْمِ لَهُ فَالظَّاهِرُ الْمُتَعَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ عَقِبَ دُعَائِهِ وَاسْتِغَاثَتِهِ رَبَّهُ، وَلِذَلِكَ تَمَثَّلَ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٥٤: ٤٥) وَزَالَ خَوْفُهُ وَصَارَ يُعَيِّنُ أَمْكِنَةَ تِلْكَ الْمَصَارِعِ. وَأَمَّا الْوَعْدُ فَسَيَأْتِي فِيهِ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ الِاسْتِغَاثَةِ وَالِاسْتِجَابَةِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَأَمْثَلُ مَا يُقَالُ فِيهِ وَأَقْوَاهُ، مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي كَثِيرٍ مِنْ وُعُودِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُطْلَقَةِ بِالْجَزَاءِ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ بِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الْأُخْرَى مِنَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْوَعْدَ الْمُطْلَقَ بِالنَّصْرِ لِلرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مُقَيَّدٌ بِمَا اشْتُرِطَ لَهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى، مِثَالُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ غَافِرٍ " الْمُؤْمِنِ " الْمَكِّيَّةِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٤٠: ٥١) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الرُّومِ الْمَكِّيَّةِ أَيْضًا: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٣٠: ٤٧) وَمِثَالُ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى


الصفحة التالية
Icon