وَصَفَهُمْ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ وَآيَتَيِ الْبَقَرَةِ ; لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ التَّعْرِيضِ بِالَّذِينَ رَدُّوا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَهْتَدُوا بِسَمَاعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ.
وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ أَيْ: وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمُ اسْتِعْدَادًا لِلْإِيمَانِ وَالْهُدَى بِبَقِيَّةٍ مِنْ نُورِ الْفِطْرَةِ، لَمْ تُطْفِئْهَا مَفَاسِدُ التَّرْبِيَةِ وَسُوءُ الْقُدْوَةِ، لَأَسْمَعَهُمْ بِتَوْفِيقِهِ وَعِنَايَتِهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ سَمَاعَ تَفَقُّهٍ وَتَدَبُّرٍ، وَلَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِمْ; لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ أَحَاطَتْ بِهِمْ خَطَايَاهُمْ، وَخُتِمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ وَقَدْ عَلِمَ أَنْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ (لَتَوَلَّوْا) عَنِ الْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ لِمَا فَهِمُوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مُعْرِضُونَ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ بِقُلُوبِهِمْ عَنْ قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ - كَمَا هُوَ مَدْلُولُ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ - كَرَاهَةً وَعِنَادًا لِلدَّاعِي إِلَيْهِ وَلِأَهْلِهِ، لَا تَوَلِّيًا عَارِضًا مُؤَقَّتًا، وَفَرْقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ التَّوَلِّي الْعَارِضِ لِصَارِفٍ مُؤَقَّتٍ، وَتَوَلِّي الْإِعْرَاضِ وَالْكَرَاهَةِ الَّذِي فَقَدَ صَاحِبُهُ الِاسْتِعْدَادَ لِلْحَقِّ، وَقَبُولَ الْخَيْرِ فَقْدًا تَامًّا، وَمَنِ اضْطَرَبَ فِي فَهْمِ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ
فَقَدْ جَهِلَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ الْفَارِقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ كَمَا بَيَّنَهُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُسْمِعْهُمْ، أَيْ لَمْ يُوَفِّقْهُمْ لِلسَّمَاعِ النَّافِعِ ; لِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ هُوَ مَا فِي الْفِطْرَةِ مِنْ نُورِ الْحَقِّ الْمُحَبِّبِ لِلنَّفْسِ فِي الْخَيْرِ، وَقَدْ فَقَدُوا ذَلِكَ بِإِفْسَادِهِمْ لِفِطْرَتِهِمْ، وَإِطْفَائِهِمْ لِنُورِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَقِّ وَالْخَيْرِ الَّذِي يُذَكِّيهِ سَمَاعُ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، فَصَارُوا مِمَّنْ وَصَفَهُمْ فِي سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ بِقَوْلِهِ: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٣: ١٤) وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢: ٨١) وَوَصَفَهُمْ فِيهَا بِقَوْلِهِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (٢: ١٨) وَضَرَبَ الْمَثَلَ لِسَمَاعِهِمْ بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مِنْهَا: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٢: ١٧١) يَعْنِي أَنَّهُمْ كَسَارِحَةِ النَّعَمِ تَسْمَعُ الصُّرَاخَ النَّاعِقَ فَتَرْفَعُ رُءُوسَهَا، وَلَكِنَّهَا لَا تَفْهَمُ لَهُ مَعْنًى، فَإِذَا سَكَتَ عَادَتْ إِلَى رَعْيِهَا كَمَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ:
نَحْنُ وَلَا كُفْرَانَ لِلَّهِ كَمَا | قَدْ قِيلَ فِي السَّارِبِ أَخْلَى فَارْتَعَى |
إِذَا أَحَسَّ نَبْأَةً رِيعَ وَإِنْ | تَطَامَنَتْ عَنْهُ تَمَادَى وَلَهَا |