وَهُوَ عَيْنُ مَا فَصَّلْنَاهُ مِنَ الْفُرْقَانِ الْعِلْمِيِّ الْحُكْمِيِّ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ بِالنَّصْرِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، بِمَا يُعِزُّ الْمُؤْمِنَ وَيُذِلُّ الْكَافِرَ، وَبِالنَّجَاةِ مِنَ الشَّدَائِدِ فِي الدُّنْيَا، وَمِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا مِنَ الْفُرْقَانِ الْعَمَلِيِّ الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ الْعِلْمِيِّ. ذَكَرَ كُلَّ مَا رَآهُ مُنَاسِبًا لِحَالِ وَقْتِهِ أَوْ حَالِ مَنْ لَقَّنَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْصِدْ تَحْدِيدَ الْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ، وَلَا الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ التَّقْوَى بِأَنْوَاعِهَا، وَهَذَا النُّورُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ طَالِبُهُ إِلَّا بِالتَّقْوَى، هُوَ الْحِكْمَةُ الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٢: ٢٦٩) فَهُوَ كَعَهْدِ اللهِ فِي إِمَامَةِ النَّاسِ بِالْحَقِّ لَا يَنَالُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالتَّقْلِيدِ لِغَيْرِهِمْ لِاحْتِقَارِهَا فِي جَنْبِ إِطْرَائِهِمْ لِمُقَلِّدِيهِمْ، بَلْ هُمْ لَا يَطْلُبُونَهُ وَلَا يَقْصِدُونَ الْوُصُولَ إِلَيْهِ; لِأَنَّهُمْ صَدَّقُوا بَعْضَ الْجَاهِلِينَ فِي ادِّعَائِهِمْ إِقْفَالَ بَابِهِ، وَكَثَافَةَ حِجَابِهِ، بَلْ أَصْحَابُهُ هُمُ الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الشَّرْعِ وَالدِّينِ وَالْوَاضِعُونَ لِلْعُلُومِ الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ، وَكَانَ لِشَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ حَظٌّ عَظِيمٌ مِنْهُ.
أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ بِاتِّقَائِهِ، وَبِاتِّقَاءِ النَّارِ، وَبِاتِّقَاءِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَبِاتِّقَاءِ الْفِتَنِ الْعَامَّةِ فِي الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ، وَتَقَدَّمَ فِي وَصَايَا هَذَا السِّيَاقِ - وَبِاتِّقَاءِ الْفَشَلِ وَالْخِذْلَانِ فِي الْحَرْبِ، وَبِاتِّقَاءِ ظُلْمِ النِّسَاءِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْعَاقِبَةَ فِي إِرْثِ الْأَرْضِ
لِلْمُتَّقِينَ، كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ لِلْمُتَّقِينَ، وَقَالَ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (٦٥: ٢، ٣) وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (٦٥: ٥) وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي التَّقْوَى الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَأَجْرِهَا وَعَاقِبَتِهَا كَثِيرٌ، فَمَعْنَى التَّقْوَى الْعَامَّةِ اتِّقَاءُ كُلِّ مَا يَضُرُّ الْإِنْسَانَ فِي نَفْسِهِ، وَفِي جِنْسِهِ الْإِنْسَانِيِّ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَمَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقَاصِدِ الشَّرِيفَةِ وَالْغَايَاتِ الْحَسَنَةِ، وَالْكَمَالِ الْمُمْكِنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي مَا يُسْتَطَاعُ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَزِدْنَا عَلَى ذَلِكَ: اتِّقَاءَ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْكَمَالِ وَسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْكَوْنِ، كَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَجَعْلِ كَلِمَةِ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فِي الْأَرْضِ كَمَا هِيَ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا هِيَ السُّفْلَى كَذَلِكَ. وَكَمَالُ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ الْوَاسِعِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - وَكَمَالُ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِنْسَانِ مُجْتَمِعًا وَمُنْفَرِدًا كَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَتْ ثَمَرَةُ التَّقْوَى الْعَامَّةُ الْكَامِلَةُ هُنَا حُصُولَ مَلَكَةِ الْفُرْقَانِ الَّتِي يُفَرِّقُ صَاحِبُهَا بِنُورِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ مِنْ عِلْمٍ وَحُكْمٍ وَعَمَلٍ، فَيَفْصِلُ فِيهَا بَيْنَ مَا يَجِبُ قَبُولُهُ، وَمَا يَجِبُ رَفْضُهُ، وَبَيْنَ مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ، وَمَا يَجِبُ تَرْكُهُ، وَتَنْكِيرُ الْفُرْقَانِ لِلتَّنْوِيعِ التَّابِعِ لِأَنْوَاعِ التَّقْوَى كَالْفِتَنِ فِي السِّيَاسَةِ وَالرِّيَاسَةِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْعَدْلِ وَالظُّلْمِ، فَكُلُّ مُتَّقٍ لِلَّهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتِهِ فُرْقَانًا فِيهِ، وَبِذَلِكَ كَانَ الْخُلَفَاءُ وَالْحُكَّامُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ خُلَفَاءِ الْعَرَبِ أَعْدَلَ حُكَّامِ الْأُمَمِ فِي الْأَرْضِ حَتَّى فِي عَهْدِ الْفَتْحِ. قَالَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ: مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا


الصفحة التالية
Icon