أثر الوضع فى التفسير:
وكان من وراء هذه الكثرة التى دخلت فى التفسير ودُسَّت عليه، أن ضاع كثير من هذا التراث العظيم الذى خلَّفه لنا أعلام المفسِّرين من السَلَف، لأن ما أحاط به من شكوك، أفقدنا الثقة به، وجعلنا نرد كل رواية تطرَّق إليها شئ من الضعف، وربما كانت صحيحة فى ذاتها.
كما أن اختلاط الصحيح من هذه الروايات بالسقيم منها، جعل بعض مَنْ ينظر فيها وليس عنده القدرة على التمييز بين الصحيح والعليل، ينظر إلى جميع ما رُوِىَ بعين واحدة، فيحكم على الجميع بالصحة، وربما وَجَد من ذلك روايتين متناقضتين عن مفسِّر واحد فيتهمه بالتناقض فى قوله، ويتهم المسلمين بقبول هذه الروايات المتناقضة المتضاربة.
يقول الأستاذ "جولدزيهر" فى كتابه "المذاهب الإسلامية فى تفسير القرآن" (٧٨-٨٢) - ما نصه: "وإنما لمما يلفت النظر فى هذا المحيط، هذه الظاهرة الغريبة، وهى أن التعاليم المنسوبة إلى ابن عباس تحمل طابع التصديق بشكل متساو، وهى فى نفسها تظهر فى تضاد شديد بينها وبين بعضها، مما لا يقبل التوسط أو التوفيق".
ثم يسوق بعد ذلك مثالاً لهذا التضاد، فيذكر ما قام حول تعيين الذبيح من خلاف أسنده مثيروه إلى أقوال مأثورة عن السلَفَ، ويذكر فى ضمن كلامه: "أن كل فريق يعتمد فى رأيه على إسناد متصل بابن عباس يدعم به رأيه، فالإسحاقيون عن عِكرمة، والإسماعيليون عن الشعبى أو مجاهد، كل أُولئك سمعوا ذلك عن ابن عباس، وكل ادَّعى بأن هذا هو رأيه فى هذه المسألة.. "
ثم يقول بعد كلام ساقه فى هذا الموضوع: "ويمكن أن يُرى من ذلك إلى أى حد يكون مقدار صحة الرأى المستند إلى ابن عباس، وإلى أى حد يمكن الاعتراف به. وما نعتبره بالنسبة له وللآراء المأثورة عنه، يمكن أن يُعتبر إلى أقصى حد بالنسبة للتفسير المأثور، فالأقوال المتناقضة يمكن أن ترجع دائماً إلى قائل واحد، معتمدة فى الوقت نفسه على أسانيد مرضية موثوق بها... "
ثم يقول بعد كلام ساقه عن الإسناد وما قع فيه من اللعب والخداع: "ومن الملاحظات التى أبديناها، يمكن أن نخلص بهذه النتيجة: وهى أنه لا يوجد بالنسبة لتفسير مأثور للقرآن ما نستطيع أن نسميه وحده تامة أو كياناً قائماً، فإنه قد تُروى عن الصحابة فى تفسير الموضوع الواحد آراء متخالفة وفى أغلب الأحيان يناقض بعضها بعضاً من جهة، ومن جهة أخرى فقد تُنسب للصحابى الواحد فى معنى الكلمة الواحدة أو الجملة كلها آراء مختلفة، وبناء على ذلك، يُعتبر التفسير الذي يخالف بعضه بعضاً، والمناقض بعضه بعضاً، مساوياً للتفسير بالعلم".