هذا ما حكم به الأستاذ "جولدزيهر" على التفسير بالمأثور فى كتابه، وكل ما قاله فى هذا الموضوع لا يعدو أن يكون محاولات فاشلة يريد من ورائها أن يُظهر أن ابن عباس خاصة، ومن تكلم فى التفسير من الصحابة عامة، بمظهر الشخص الذى يناقض نفسه فى الكلمة الواحدة أو الموضوع الواحد. كما يرمى من وراء ذلك أن يصرف نظر المسلمين عن هذه الثروة الضخمة التى خلَّفها لهم السَلَف الصالح فى التفسير، زعماً أن هذا التناقض الموجود بين الروايات، نتيجة لاختلاف وجهات النظر من شخص واحد أو أشخاص، وتفسير هذا شأنه نحن فى حِلٍّ من التزامه، لأنهم قالوا بعقولهم، ونحن مشتركون معهم فى هذا القَدْر.
ونحن لا ننكر أن هناك اختلافاً بين السَلَف فى التفسير، كما لا ننكر أنَّ هناك اختلافاً بين قولين أو أقوال لشخص واحد منهم، ولكن هذا الاختلاف قلنا عنه فيما سبق مفصَّلاً: إن معظمه يرجع إلى اختلاف عبارة وتنوع، لا اختلاف تناقض وتضاد، فما كان من هذا القبيل، فالجمع بينه سهل ميسور، وما لم يمكن فيه الجمع، فالمتأخر من القولين عن الشخص الواحد مقدَّم إن استويا فى الصحة عنه، وإلا فالصحيح المقدَّم.
أما إذا تعارضت أقوال جماعة من الصحابة وتعذَّر الجمع أو الترجيح، فيُقدَّم ابن عباس على غيره، لأن النبى ﷺ بشَّره بذلك حيث قال: "اللَّهم علِّمه التأويل" وقد رجح الشافعى قول زيد فى الفرائض لحديث: " أفرضكم زيد".
وأما ما ساقه على سبيل المثال من اختلاف الرواية عن ابن عباس فى تعيين الذبيح، فقد رجعتُ إلى ابن جرير فى تفسيره، فوجدته قد ذكر عن ابن عباس هاتين الروايتين المختلفتين، وساق كل رواية منها بأسانيد تتصل إلى ابن عباس، بعضها يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعضها موقوف عليه.
وابن جرير - كما نعلم - لم يلتزم الصحة فى كل ما يرويه، ولو أننا عرضنا هاتين الروايتين على قواعد المحدَثين فى نقد الرواية والترجيح، لتبين لنا بكل وضوح وجلاء، أن الرواية القائلة بأن الذبيح هو إسماعيل، أصح من غيرها وأرجح مما يخالفها، لأنها مؤيَّدة بأدلة كثيرة يطول ذكرها، وأيضاً فإن الرواية التى يذكرها ابن جرير عن ابن عباس مرفوعة إلى رسول الله ﷺ ومقيدة أن الذبيح هو إسحاق، فى سندها الحسن بن دينار عن علىّ بن زيد، والحسن بن دينار متروك، وعلىّ بن زيد منكر الحديث، كما ذكره الحافظ ابن كثير فى تفسيره.


الصفحة التالية
Icon